شهدنا في الساعات الماضية ما يمكن نعته بعاصفة الفنجان تلك التي جرت وقائعها في المؤتمر الصحفي الذي عقده المستشار الألماني أولاف شولتس في برلين مع محمود عباس حين قام أحد الصحفيين بالسؤال عن الموقف من مهاجمة وقتل 11 لاعبًا من الرياضيين التابعين لكيان العدو في الألعاب الأولمبية في ميونخ.
وقد جاء رد عباس باهتًا حين هرب إلى الأمام بذكر ما وقع للشعب الفلسطيني من مجازر وقد حصرها بخمسين مجزرة وهي التي يزيد عددها على 150 كحد أدنى ولم تزل تستمر فصولًا حتى اليوم ولأكثر من قرن.
لقد كان بإمكان عباس التعليق بهدوء وموضوعية ووضع النقاط على الحروف حتى لا يُعطي العدو أوراقًا جديدة مفتعلة يضيفها إلى عديد الفرص الضائعة التي يعطيها سيد كارثة أوسلو إلى عدو يزداد رصيده في حصار الشعب الفلسطيني واستيطان أرضه واغتيال رجاله.
ورغم أن عباس عاد ليعتذر، وكما قال نبيل أبو ردينة الناطق باسم عباس "إنه وعلى الرغم من البيان التوضيحي الذي أصدره عباس وأعلن فيه بكل وضوح عن مواقفه، فإن الحملة ما زالت مستمرة ضده"، وهو البيان الذي صدر في وقت لاحق أعرب فيه عن إدانته للمجازر التي ارتكبتها ألمانيا النازية بحق اليهود في الحرب العالمية الثانية.
ومعلوم أن عباس لم يشكك بالهولوكست أو يتعرض له وبل ولم ينفِهِ في كل شاردة وواردة، فإن بيني غانتس وزير جيش العدو لا يريده أن يخرج عن تعليمات سيده حتى لو كان ذلك في زلة لسان لم تقع أصلًا.
ولم يكن المستشار الألماني أولاف شولتس أوفر حظًّا، فقد كان الارتباك باديًا عليه وهو مُتَجِهم وبدا وجهه متيبسًا في أثناء حديث عباس لكنه لم يعلق، في حين تعرض أيضًا لانتقادات شديدة لأنه لم يبادر بإدانة تصريحات عباس مباشرة وفور إدلائه بها، حتى إن مجلة "ديرشبيغل" الألمانية كتبت: "كنا نود لو جاء توضيح شولتس في الحال".
ولكنه وحال انفضاض المؤتمر الصحفي دَوّن المستشار على موقع تويتر وبجرأة زائدة: "أشعر بالاشمئزاز من التعليقات المثيرة للغضب التي أدلى بها (رئيس السلطة) محمود عباس وبالنسبة لنا تحت الألمان فإن أي مقارنة بين ما حصل في الهولوكوست وأي حدث آخر هو شيء لا يحتمل وغير مقبول، أدين أي محاولة لإنكار الهولوكوست".
وعلى الرغم من أن عباس لم ينكر ما يسمونه بالهولوكوست في أثناء المؤتمر الصحفي لا من قريب ولا من بعيد، فقد علق رئيس وزراء المستوطنه يائير لبيد على تويتر: إن "اتهام محمود عباس (إسرائيل) بارتكاب 50 هولوكوست على حين هو يقف على أرض ألمانية، ليس عارًا أخلاقيًّا فقط، لكنه كذبة شنيعة".
كما وصف وزير الجيش بيني غانتس تعليقات عباس بأنها "مُروَعّة ومحاولة لإعادة كتابة التاريخ".
وقد أخذ عباس كل ما تقدم وغيره من تعليقات لغير مسؤول صهيوني وغربي بالحسبان حين أضاف متبرعًا ومعبرًا عن الندم حين أصدر بيانًا قال فيه: إن "الهولوكوست يعد أبشع الجرائم التي حدثت في تاريخ البشرية الحديث".
وقد شدد وبحزم أيضًا على أنه لم يقصد أبدًا "إنكار خصوصية الهولوكوست، فهي مدانة بأشد العبارات".
ولم ينتهِ المشهد عن هذا الحد، بل بادر نفر من فريق عباس بالاعتذار المُشَدّد، وكان في مقدمتهم حسين الشيخ، الذي بذل جهودًا استثنائية لرد "التهمة" عن عباس عسى أن يوسع دائرة مريديه في قيادة أجهزة الأمن الصهيونية التي أكدت من جهتها أن ما جرى في برلين لم يترك أثرًا على التعاون الوثيق مع أجهزة الأمن (الفلسطينية) التي تشهد تطورًا تزداد وتائره كلما اقتضت الضرورة ذلك.
كما أن ما أُثيرَ أيضًا وذكرته صحيفة "بيلد" الألمانية ومفاده أن شرطة برلين فتحت تحقيقًا أوليًا ضد عباس بسبب تلك التصريحات التي عدت تحريضًا على الكراهية، ولكن ذلك لن يأخذ مداه خاصة وأن عباس لديه حصانة وقد كان في زيارة رسمية لألمانيا.
ولا بد من التأكيد هنا أن كل هذا اللغط الجاري إنما هو نتاج لِفِعل قُوى تنتمي إلى اللوبي الصهيوني في ألمانيا، وهو استمرار في توظيف الهولوكوست وسياسة ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين لتغطية المجازر الصهيونية الممتدة ما قبل قيام الكيان العدواني على الأرض الوطنية واستمرار الاستيطان المتسارع وغير الشرعي والجرائم ضد الإنسانية التي تمارسها حكومة العدو كسياسة رسمية منذ ذاك الوقت.
والسؤال الكبير المطروح بالأمس، واليوم وغدًا، أين عباس من كل ذلك؟
والحقيقية التي تنتصب أمامنا، وبكل جلاء ومرارة أن عباس ركن ركين وامتداد لكل ذلك، وهو الذي لم يحرك ساكنًا في مواجهة المجازر التي يتشدقُ بها، بل يقوم على مدار الساعة بتقديم كل ما من شأنه حصار المقاومة وقتل النشطاء وتسليم خيرة أبناء الشعب الفلسطيني الصابر الصامد لجلاديه، ويكاد لا يمر يوم دون اغتيال شهداء واعتقال العشرات يوميًا حتى يوفر لهذا العدو المجرم كل أسباب الأمان.
إن على قيادة الشعب المرابط متمثلة في فصائله الحية المقاومة مواجهة هذا الانحدار الخطر والمتواصل للسلطة في رام الله المحتلة وفضح هذا التعويم والتلميع لسياسات أضحت مكشوفة للقاصي والداني وفضح كل الذين يحاولون ركوب هذه الموجة التي ستذهب هدرًا كغثاء سيل.