لم تكد تشعر المسنة إلهام فلفل بالراحة بعد أن وطئت قدمها منزلها الجديد حتى أحال الاحتلال الإسرائيلي حلمها إلى ركام دون سابق إنذار، فلم تنهِ بعد تشطيب منزلها ولم تشتم رائحة دهانها الجديد ولم تحتفل بالاستقلال في منزل منفرد عن بيت العائلة، فقط أربعة أشهر هي التي عاشتها في المكان الذي حلمت به طويلًا.
فـ"فلفل" منذ زواجها تسكن في بيت من غرفتين فقط ومطبخ وحمام مسقوفٍ بـ"الزينقو" في بيت العائلة، أنجبت فيه أبناءها الخمسة: ثلاث فتيات من ذوي الاحتياجات الخاصة وشابين، فعملت حثيثًا على شراء منزل جديد يمكنها أن تزوج ابنَيْها فيه.
ولضعف الإمكانات المادية لزوجها الذي يعمل عاملًا في البلدية لجأت إلى أخذ قروض من "مؤسسة تقرض النساء"؛ لكي تكمل ثمن المنزل الذي اشترته في مخيم "الشعوت" برفح، "بيوت هذا المخيم أغلبها متهالكة ومتلاصقة، مع ذلك ثمن حصة زوجي من بيت العائلة لم يكفِ لشراء هذا المنزل؛ فاستدنتُ لكي أكمل ثمنه وأتمكن من إعادة تشطيبه" تقول فلفل.
وتضيف: "فالبيت قديم ومتهالك، وكان بحاجة لتجديد مرافقه، خاصة المطبخ، فجددناه وأثثناه، ليتحقق حلمنا بمنزل يؤوينا وأبناءنا، لم تكن فرحتنا بسيطة أنْ سترتنا جدران منزل واستطعنا التوسعة على أنفسنا".
ففي الطابق الثاني من المنزل كان ابنها البكر "سمير" يستعد لزفافه ويؤثث شقته بقرض آخر، ولم يتبقَ سوى كساء الأرض الإسمنتية بالبلاط، لكن الاحتلال أحال حلمه إلى رماد.
في ليلة القصف الغادر على مدينة رفح يوم السادس من أغسطس طلب سمير من والدته أن تصنع لهم "كعكة"، فكان له ما أراد، والتمت الأسرة يحتسون الشاي معًا، فإذا المنزل ينهار فوق رؤوسهم دون سابق إنذار.
مع هول الصدمة لم تعرف إلهام أين تذهب، فبدلًا من أن تخرج إلى الشارع اتجهت نحو غرفة في داخل المنزل، لولا أن ابنها الصغير "يوسف" صاح بأعلى صوته يسألها: "وين إنت رايحة؟!"، فأخبرته بأنها تريد الهروب، فطلب منها الخروج إلى الشارع، تقول: "لقد سقط الإسبست على رأسي ولم أعد أرى الطريق أو أعرف أين أخرج، خرجتُ بصعوبة ولم أستيقظ إلا وأنا بالمشفى".
وتضيف: "أصبتُ برأسي وقطبه الأطباء بقرابة 50 غرزة، خرجتُ بملابس البيت وخلع زوجي جلابيته وسترني".
وتشير فلفل إلى أن ابنها سمير أصيب في قدمه، ورغم الإصابة وهول الموقف حمل شقيقته من ذوي الاحتياجات الخاصة (عاجزة عن المشي) على رأسه وخرج بها للشارع، متابعة: "لقد نجت بناتي بمعجزة ربانية، فإحداهن أصيبت ببتر في إصبع القدم".
كان القصف شديدًا، فقرابة سبعة صواريخ لا يفصل بين الواحد والآخر ثانية وحدة جعلت الموقف صعبًا جدًّا على عائلة فلفل، جعلتهم لا يدركون حتى الآن كيف استطاعوا الهروب وكيف بقوا على قيد الحياة.
وتبين أنها فقدت "تحويشة العمر" داخل المنزل، وأهمها "الكرسي المتحرك" الخاص بابنتها المعاقة، حتى إنها لا تستطيع نقلها للعلاج حاليًّا لكبر سنها، وقد هدم الاحتلال أيضًا حلم ابنها بالزواج، قائلة: "كنا نعد العدة لتزويجه في شهر نوفمبر المقبل، فقد شقته، وأصيب، وهو حاليًّا بحاجة لعملية جراحية أخرى".
لم تقوَ فلفل بعد انقشاع "غمة العدوان" على رؤية ركام منزلها؛ فدخلت في حالة نفسية صعبة، وانهارت من البكاء حين رأت كل ممتلكاتها مفتتة، تقول: "لقد نُسف المنزل وبقيت الديون".
وبتبرع من أهل الخير استأجرت فلفل وأسرتها منزلًا مدة شهر، آملةً تعويضها في أقرب وقت عما فقدت.
ولم يكن أفضل حالًا ابنها الصحفي يوسف، الذي لم يكد يتنفس الصعداء ويحظى بغرفة مستقلة في المنزل، حتى حرمه الاحتلال منها، يقول: "كنت في شدة الفرح بغرفتي الجديدة، وأخذتُ قرضًا واشتريتُ به حاسوبًا وكاميرا وغيرهما من المعدات اللازمة لعملي الصحفي، لكن صواريخ الاحتلال أحالتها إلى فتات".
ويضيف: "سرقوا فرحتنا بمنزلنا الجديد وباستعدادنا لفرح شقيقي، لم نكن نريد سوى جدران تسترنا، واليوم لا نريد مالًا ولا طعامًا، نريد فقط أن يعيدوا بناء بيتنا، ونسدد القروض التي علينا".