فلسطين أون لاين

أغلق فصل المطاردة الأخير برفقة "أمين سره"

تقرير إبراهيم النابلسي.. بطلٌ يكتب بدمائه "لا تتركوا البارودة"

...
الشهيد النابلسي
غزة/ يحيى اليعقوبي:

"يا شباب، أنا بحبك أمي، حافظوا على الوطن من بعدي، بوصيكم ما حد يترك البارودة، هيني محاصر، ورايح أستشهد!" كلماتٌ لم يزد وقت تسجيلها على عشر ثوانٍ، أرسلها المطارد إبراهيم النابلسي إلى أصدقائه، لكن منتهى استقرارها هبط عند قلوب شباب فلسطين.

لم ينسَ حبه لأمه، التي خصّها بكلمة "أحبك" يخرج الحاء من أقصى الحلق وتنطبق الشفتان على الباب وبينهما تمر كل حروف اللغة العربية، ويقصد بأمه فلسطين، عندما أيقن أنّ جيشًا مدججًا بالسلاح يحيط به من كل الجهات، وأنّ نسائم الشهادة اقتربت وأنه سيغلق فصل المطاردة الأخير، ليلحق بأصدقائه الشهداء، محمد الدخيل، وأدهم مبروكة، وأشرف مبسلط استشهدوا ونجا هو في فبراير/ شباط الماضي.

صورتان الفارق الزمني بينهما لم يتجاوز أسبوعين، ظهر في الأولى إبراهيم وهو يحمل جثمان الشهيد محمد العزيزي وعبد الرحمن صبح، وفي الثانية النابلسي محمولًا على أكتاف الرجال شهيدًا، يُسلّمُ الشهداء الراية لغيرهم، مؤكدين أنه في كل مرة يقتلُ فيها الاحتلال مقاومًا، هو في الحقيقة لا ينهي حياته بل يعلن ولادته في قلوب أبناء شعبه، فيأتي بطلٌ آخر يستلم راية الثورة التي لا تنطفئ نارها.

درب الشهداء

لا يوجد أصدق من الكلمات التي يُعبّر فيها الشهداء عن أنفسهم، يرسمون بكلماتهم طريق العبور لمن خلف، يقول النابلسي في مقابلة صحفية معه: "إنني أسير على درب الشهداء، رفقاء دربي، الذين اغتالتهم القوة الإسرائيلية الخاصة، الدخيل، ومبروكة، ومبسلط، وإن أردوا إبراهيم النابلسي فإنّ ذلك يتحقق بالاغتيال، لأني لن أستسلم، حتى تتحرر هذه البلاد".

تعطي أمه درسًا بالصبر، على باب المشفى أمام حشد من المشيعين يهتفون لها: "يا أم الشهيد نيالك، يا ريت أمي بدالك"، قابلت الهتاف بزغاريد نصر انطلقت من حنجرتها هي، تزفُ بها ابنها بكل فخرٍ وعزةٍ وكرامة، تقول لهم: "أطلقوا النار على إبراهيم، هناك مئة إبراهيم، وكلكم إبراهيم وكلكم أولادي" ختمتها بشارة النصر.

في عذوبة رقيقة في مشهد حزين، تبتسم أمه وهي تحمل جثمانه من جهة ووالده من الجهة الأخرى.

في مقطع مرئي انتشر له، يظهر النابلسي وهو يشتبك مع قوات الاحتلال على مفارق الطرق بنابلس، يحاول أحد المقاومين سحبه إلى السيارة والمغادرة، لكنه رفض الانسحاب وواصل الاشتباك.

يجيب والده الذي حمل نعشه على أحد الصحفيين: "سرنا في طريق التسوية سبعة وعشرين سنة، ماذا حققنا؟ لا شيء! كلما تأتي حكومة إسرائيلية تظهر أنها يمينية متطرفة تسفك الدم الفلسطيني، إبراهيم أينما يسمع هناك جيش إسرائيلي يذهب للاشتباك معه، وهذا قدره، ورسالتي للجيل الصاعد، أن يحافظ على إرث الشهداء، التي أوصاهم بها".

"صاحب الأرواح الـ9" كما أطلقت عليه الصحافة العبرية، كان المطلوب الأول لدى جيش الاحتلال في المدينة، منذ نجاته من محاولة الاغتيال في فبراير/ شباط الماضي، وهو من سكان مدينة نابلس، شارك منذ نعومة أظفاره في العمل المقاوم للاحتلال، وتعرض للعديد من محاولات الاغتيال.

تحت مجهر السلطة

لكن لم يكن النابلسي "وأمين سره" الذي ارتقى معه في الاشتباك، إسلام صبوح، تحت مجهر الاحتلال فقط، شادي صبوح شقيق إسلام يزيح الستار لصحيفة "فلسطين"، عن تعرضهم للملاحقة والمطاردة من قِبل أجهزة أمن السلطة، يقول: "اعتقلت أجهزة أمن السلطة أخي إسلام عام 2017 لمدة عامين، أمضى ستة أشهر بسجن أريحا، تعرض خلالها للتعذيب والضرب والشبح، وأكمل المحكومية في سجن الجنيد بمدينة نابلس، ولم يكن النابلسي بعيدًا عن هذه المطاردة، فقد اعتقلته نفس الأجهزة لمدة ستة أشهر بنابلس".

الساعة السادسة صباحًا، اتصل إسلام على عائلته، وكان بمنزلة اتصال الوداع "اتصل بنا، يخبرنا أنهم محاصرون، وطلب الدعاء له، وأيضًا أرسلوا رسائل على مجموعة خاصة على "تليغرام" بينهم ترصد تحرك جيش الاحتلال، يعلوهم أنهم محاصرون وأنهم قريبون من الشهادة".

تحولت نابلس إلى ساحة معركة، رصاص كثيف، وأصوات قذائف، لحظاتٌ يتردد صداها في ذاكرة صبوح "نزلت من بيتي، وذهبت إلى البلدة القديمة بمنطقة شارع حطين التي دارت فيها الاشتباكات، حتى انسحب جنود الاحتلال الساعة التاسعة صباحًا ويبدو أنّ الذخيرة نفدت لدى أخي والنابلسي، كان أخي متشوهًا بفعل القذائف، جسده محترق، ورأسه متفجر".

لم يجمع السلاح إسلام والنابلسي فقط، بل سبقت هذه العلاقة روابط عائلية تجمعهما، كان إسلام "أمين سر" النابلسي الذي لا يثق بأي شخصٍ بسهولة، يتوقف شقيقه عند هذه العلاقة: "أخي دائمًا كان يساعده، ويحضر له الطعام، ينام معه، يؤمنه على سره، ويثق به بشدة، حتى خاضوا الاشتباك معًا".

وجود نحو 60 ألف عنصر أمن بالسلطة غير قادرة على حماية المقاومين والمواطنين من بطش جيش الاحتلال، يخرج جمرات الغضب من صوت صبوح: "لو كانوا معنيين بحماية الشعب، لاستطاعوا فعل ذلك فأعدادهم كبيرة، خاصةً أنّ من يقاومون الاحتلال الآن يُعدّون على الأصابع".

يُوجّه شقيق الشهيد رسالة للاحتلال: "مهما اعتقل، وقتل، فهذا قدرنا، نحن لا نريد أن نطلب الثأر من أهالي غزة، لأنهم لطالما وقفوا مع القدس وجنين، والضفة، وحقهم أن يعيشوا بسلام وألّا يتحملوا عنا مصائبنا فأعانهم الله على الذي يعيشونه من حصار وحروب، ونحن نستطيع الدفاع عن أنفسنا، ونأمل أن تكون دماء الشهداء بداية طريق جديد، نتوحد فيه ضد الاحتلال".