دُفنت أطرافها الثلاثة؛ يدها اليمني، وقدماها، لم تخرج من العدوان الإسرائيلي إلا بيدها اليسرى الناجية من كل هذا البطش، وجدت الطفلة رهف سلمان التي لم تتجاوز الحادية عشرة من عمرها، نفسها أمام إعاقة مركبة، ومسار حياة تغيَّر تمامًا، حرمت من كل شيءٍ جميل كانت تحلم به، بأن تصبح رسّامةً وطبيبة تداوي جراح الناس، لكنها الآن تبحث عن طبيب يُداوي جُرحًا لا تستطيع كل الخيوط الطبية أن تلْأَمه.
لن تعرف رهف الرسم بيدها اليُمنى التي اعتادت رسم لوحاتها الجميلة بها، أو خط قلمها على كتبها الدراسية، لعبتها المفضلة بين أزقة منزلها التي تُطلق عليها الفتيات اسم "الحجلة" أصبحت مستحيلة، ستجاهد كثيرًا في فعل أيسر الأشياء التي كانت تفعلها بسهولة قبل إصابتها في إثر قصف للاحتلال الإسرائيلي على مخيم جباليا شمال قطاع غزة.
على سرير مشفى الإندونيسي شمال القطاع، تمسكُ رهف بمقبض السرير، تؤكد أن شيئًا متبقيًا يمكنها مواجهة الإعاقة به، تترقرق عيناها بالدموع لكنها تصر على التماسك وإعادتهم إلى القلب، ورفع شارة النصر بيدها الناجية أمام عدسات المصورين التي لم تلتقط هشاشة قلبها.
أمنية لن تعود
"نفسي ترجعلي ايدي ورجلي عشان أطلع أشوف الناس والطبيعة" أمنية مستحيلة، لا تعي رهف هذه الحقيقة، على براءتها وصغر سنها أو أنَّ أحدًا من العائلة أعطاها دفعة أملٍ، حتى لا تنهار أعمدة تماسكها، كانت تلك الكلمات التي فتحت بها جرحها لصحيفة "فلسطين" كفيلة بإنزالِ دموع نساء العائلة اللواتي جئن للاطمئنان عليها.
تقصُ شريطَ الحكايةِ المُرَّة: "خرجت من باب البيت لأنادي على أخي محمد (13 عامًا)، انتظرنا عودة أبي من الصلاة، حتى نتناول العَشاء معًا، فجأةً فقدت الوعي وشعرت برعشة كهرباء قوية بجسدي، وارتطام الصاروخ الإسرائيلي بي".
"لدي موهبة في الرسم، قبل إصابتي انتهيت من رسم لوحة لأطفال يلعبون على البحر، وكانت أمنيتي أن أصبح طبيبة أعالج الناس"، تنظرُ إلى يدها المبتورة تواسي نفسها، الوجع أكبر من أن يخرج صوتها الذي كان ثقيلاً جدًّا في أثناء الكلام: "اعتدت الرسم والكتابة بيدي اليمنى، والآن أصبت! فكيف سأكتب بيدي اليسرى وأنا لم أكتب فيها قط؟".
تفكر رهف بأشياء يسيرة بسؤالها السابق، مقارنة بالصعوبات التي ستواجهها خلال الأيام والشهور والسنوات القادمة، ستبذل هي ومن خلفها أمها جهدًا كبيرًا، من أجل دمجها في المجتمع، تشعر والدتها التي تجلس بقربها على سرير آخر، بحجم المسؤولية الملقاة على عاتقها، كانت صابرة "محتسبة أمرها لله عز وجل، مستعدة لوهب وقتها، وحياتها من أجل رهف، تعاهدها أن تكون جناحها المفقود، وقدميها".
لكن لم تخفِ الأم ثقل المسؤولية، التي لم تعتدها: "الحقيقة أنا راضية محتسبة أجري عند المولى، ولن نهرب من قدرنا، لكن المصاب صعب، خاصة أنني لم أعتد رعاية ذوي الإعاقة، ويكون الابن فاقدًا ثلاثة أطراف (...) في الصباح حاولت نقلها بمفردي فلم أستطع فاستعنت برجلٍ ليساعدني، فحملتها من طرف وهو من طرف".
مسار حياة تغير
لحظة الحدث، رفع أذان العشاء، وانتظرت والدة رهف عودة ابنتها التي ذهبت لإحضار شقيقها محمد، مع والدهم، في لمةٍ عائلية، لكن صوت الصاروخ وصل إلى مسامعها الذي هز جدران المنزل قبل قدومها، وتغيرت حياتهم منذ هذه اللحظة: "خرجت أبحث عن أولادي، كان محمد ينزف، ونقل إلى المشفى، لم أجد رهف، استمررنا لنصف ساعة في البحث عنها، حتى عثرنا عليها في المستشفى الإندونيسي".
كانت في غرفة العناية بجوار الشهيد خليل أبو حمادة، كان الأطباء يستعدون لإعلان استشهادها، فكانت شبه ميتة، حتى إن أحد الجيران الذي حاول إسعافها، عندما رآها مبتورة القدمين، والدم ينزف منها، ومن يدها التي يمسك بها ما تبقى من جلدها الذي لم يحترق، وشعرها المنتفض من شدة الانفجار ووجهها الذي امتلأ باللون الأسود، لم يستطع من هول المشهد حملها، حتى تمكن الآخرون من إسعافها.
"الحمد لله، الله أحياها، كانت ميتة، جهزنا أنفسنا لاستقبال خبر استشهادها" لم تهتز صلابة الأم وهي تتحدث، تحمد المولى أنها خرجت حية حتى ولو دون أطراف.
بعد انتهاء الأطباء من مهمة صعبة في إسعافها، خاض فيها "ملائكة الرحمة" معركتهم في وقف النزيف وإجراء العمليات الجراحية وإعادة النبض إلى قلبها، أفاقت رهف من أثر المخدر الطبي، وفتحت عينيها على حياة أخرى، نظرت إلى جسدها الذي يلفه الشاش الطبي الأبيض، شعرت بعدم التحكم في يدها أو قدميها.
ردة فعلها تقفز أمام عيني والدتها مرة أخرى، تحاول خفض نبرة صوتها حتى لا يصل الحديث إلى مسامع رهف التي ترقد على السرير: "سألتني: "وين رجلي، وايدي" فقلت لها: بعدين ببينوا، حتى أشغلها، لكنها في اليوم التالي، قالت لي: أنا عارفة اني رجلي، وايدي، مقطوعات".
وكأنَّ الفتاة ورثت من أمها الصبر، لم تبكِ أو تصرخ كما يفعل الكثيرون، تتوقف أمها عند ردة فعلها: "قالت: إن شاء الله بسبقوني على الجنة، وحمدت الله".
أمها تطالب بأن تساعدها الجهات والمؤسسات المختصة، بتوفير أطراف أو عربة متحركة، وقبل هذا علاجها ودمجها في المجتمع، "حتى يصير لها، مثل ذوي الإعاقة" قالت.
تعيد نظرها نحو رهف، تخاطبها وتخاطبنا في آن واحد: "كانت قبل الإعاقة تتعب على نفسها، بأن تصبح رسامة وطبيبة، هذا كان حلمها، الآن ستقهر الإعاقة، وستمضي وسأكون دائمًا في جوارها".
ترافق هي ابنتها هنا، ويرافق زوجها ابنهما محمد، الذي تعرض لكسور في ركبته ومنطقة الحوض، حتى الآن لا تستطيع ترك ابنتها والذهاب للاطمئنان إليه.
تفرق الزوجان كل في جهةٍ، إلى أن يجتمعا على ذات المائدة التي سبقت نزول الصاروخ الإسرائيلي على الأرض، أمامهما محطات كثيرة لترميم الألم وتخفيف جروح الإصابة الغائرة في قلب رهف، حتى تنهض من جديد.