أصوات سيارات الإسعاف تعلو رويدًا رويدًا كلما اقتربت أكثر من بوابة قسم الاستقبال والطوارئ بمجمع الشفاء الطبي، بينما كان الأطباء في حالة من الهدوء والاستقرار يتابعون الحالات المرضية الموجودة في القسم كالمعتاد.
فجأة "وبلا سابق إنذار" ضباط الإسعاف ينزلون رافعين بين أيديهم سريرًا متنقلا يستلقي عليه جريح يُغطي الدماء أنحاء جسده، لم تُعرف هويته بعد، حينها كان الطبيب صالح عليوة اختصاصي الطوارئ يمارس عمله متجولا بين المرضى يتفقد احتياجاتهم ومواعيد جرعاتهم الدوائية.
سيارات الإسعاف المحملة بالجرحى والمصابين كانت تأتي تباعا، حتى وصل تعدادهم لأكثر من 25 مواطنا ما بين جريح تكسوه الدماء وآخر شهيد فارقت روحه إلى بارئها قبل أن يتلقى العلاج، فالمشهد بدا مفزعا للوهلة الأولى لدى الطبيب عليوة وزميله المناوب معه في قسم الاستقبال والطوارئ.
هرع "عليوة" مُسرعا نحو الجرحى وأخذ يلّوح بيديه لضباط الإسعاف بتوزيعهم على أسرّة القسم، في تلك اللحظات، دقت إدارة مجمع الشفاء ناقوس الخطر وأعلنت حالة الاستنفار القصوى، واستدعت جميع أطباء الطوارئ في كل أقسامها، وبدأت تتعامل مع الحدث الطارئ الناجم عن قصف طائرات الاحتلال الإسرائيلي الحربية شقة سكنية في برج فلسطين بعد عصر الجمعة الماضية.
"الوضع كان صعبا جدا، وحالة هلع عمّت كل القسم بسبب كثرة أعداد الجرحى الناجمة عن القصف الإسرائيلي".. بهذه الكلمات وصف الطبيب "عليوة" المشهد في اللحظات الأولى لقسم الاستقبال والطوارئ.
ويقول عليوة لصحيفة "فلسطين": "كان عدد المصابين كبير جدا، ولم نكن مُستعدين لذلك، لكننا من باب تراكم الخبرات بدأنا التعامل مع جميع الحالات، إذ جرى فرزها سريعا وفق الأخطر فالأقل خطورة".
ويوضح إلى أن أغلب الإصابات تركزت في منطقة الرأس مباشرة والجزء الأعلى من الجسد، ما يدلل على قوّة الأسلحة المُستخدمة في القصف ضد المدنيين.
يصمت قليلاً مُستذكراً مشاهد مرّت من شريط ذاكرته من العام الماضي إبان معركة "سيف القدس" في مايو/ أيار 2021، ثم يضيف: "هذه المرّة كانت المشاهد قاسية أكثر من السابق من حيث أعداد الإصابات التي جاءت في نفس التوقيت".
زميله الآخر الطبيب محيي الدين الفرا اختصاصي الطوارئ، كان حاضراً أيضاً في المشهد إذ لم يتوان عن تقديم الخدمة للمصابين، بعدما استدعته إدارة مجمع الشفاء للحضور من بيته في خان يونس جنوبي قطاع غزة إلى قسم الطوارئ فورا عصر الجمعة الماضية، بسبب الأحداث الأمنية الطارئة.
وبمُجرد وصول "الفرا" قسم الطوارئ استبدل ملابسه وارتدى "بزّة الطبيب" وراح يتفحص الجرحى ويداويهم بما يمتلك من إمكانيات ووسائل طبية.
كان المشهد صعباً ومفزعاً بسبب كثرة الحالات المُصابة كما يصفه الطبيب "الفرا" لمراسل "فلسطين"، مشيراً إلى أن غالبية الإصابات كانت خطرة، موضحا أن معظمها كانت لأطفال ونساء وتركزت في المنطقة العلوية من الجسد وبعضها في الأطراف السفلية.
يقلب شريط ذاكرته ويستذكر أبرز المشاهد التي عايشها خلال عمله منذ بدء العدوان الإسرائيلي، والتي كانت لطفل يبلغ من العمر 7 أعوام، حيث كانت إصابته خطيرة في الرأس، لكن رغم ذلك كان يرجف خوفا على أشقائه الآخرين المُصابين الذين يرقدون على أسرّة مجاورة.
ويبيّن أن قوّة وقسوة الإصابات تعكس الإجرام الإسرائيلي والأسلحة القوية التي يستخدمها الاحتلال ضد المدنيين.
خبرة كبيرة
التقى مراسل "فلسطين" برئيس قسم الطوارئ والحوادث في مجمع الشفاء د. هاني الهيثم، الذي أكد أن الكادر الطبي في المستشفى يعمل بكل ما أوتي من وسائل رغم قلة الإمكانيات والمستلزمات الطبية، ونقص الوقود.
ويقول الهيثم: إن الحروب السابقة التي عاشها قطاع غزة أكسبت جميع الكوادر الطبية خبرة كبيرة، إذ إنه بمجرد الإعلان عن قصف إسرائيلي لبرج فلسطين تم العمل وفق خطة الطوارئ المُعدة مسبقاً، بحيث لا يصبح هناك عجز في الأطباء لتقديم الخدمة الآمنة للمرضى.
وبيّن أنه تم استدعاء الأطباء وتقسيمهم وفق الخطة المُعدة مسبقاً في الأماكن المُحددة لكل طبيب، كما جرى فرز المرضى وفق شدة الخطورة وأقلها، مشيراً إلى وجود نقص حاد في بعض المستلزمات والأدوية الطبية.
وأوضح أن نقص الوقود واستمرار الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع ينعكس سلبا على الخدمات الطبية المُقدمة للمرضى، سيّما أن كل الأدوات والأجهزة تعمل على الكهرباء، لافتاً إلى أن بعض الأجهزة الطبية تعطلت بسبب عدم ثبات التيار الكهربائي.
ودعا الهيثم إلى ضرورة رفع الحصار المفروض على غزة منذ نحو 15 عامًا، والذي أثر سلبيًّا على كل قطاعات الحياة وأبرزها القطاع الصحي.