عقارب الساعة كانت تُشير إلى الرابعة عصراً، سيارات إسعاف قادمة من بعيد، وكلما اقتربت أكثر يعلو صوتها، حتى وصلت إلى بوابة قسم الاستقبال والطوارئ بمجمع الشفاء الطبي، أصوات شرطة الأمن والممرضين يكسوها نبّرة الخوف "جرحى قادمين نتيجة قصف برج سكني في شارع الشهداء".
ضباط الإسعاف ينزلون رافعين بين أيديهم سرير متنقل، يستلقي عليه جريح يُغطي الدماء أنحاء جسده، لم تُعرف هويته بعد، راح "ملاك الرحمة" صالح عليوة المتخصص بالطوارئ مُسرعاً لاستقبال ذاك الجريح الذي كان مناوباً في تلك الفترة.
سيارات الإسعاف المحملة بالجرحى والمصابين كانت تأتي تباعاً، حتى وصل تعدادهم لأكثر من 25 مواطناً ما بين جريح تكسوه الدماء وآخر شهيد فارقت روحه إلى بارئها قبل أن تتلقى العلاج، فالمشهد بدا مفزعاً للوهلة الأولى لدى الطبيب عليوة وزميله المناوب معه في قسم الاستقبال والطوارئ.
"الأمر كان مفاجئاً والاعداد كبيرة، ولم نكن مستعدين لذلك الحدث، فالمشهد كان كالمعتاد، مرضى على الأسرّة وآخرين قادمين لتلقي العلاج، عدا عن أن حالة الهدوء هي المُسيطرة على أرجاء القطاع"، يصف "عليوة" اللحظات الأولى للمشهد.
اندفع "عليوة" مُسرعاً نحو الجرحى وأخذ يلّوح بيديه لضباط الإسعاف بتوزيعهم على أسرّة القسم، على الفور دقّت إدارة مجمع الشفاء ناقوس الخطر وأعلنت حالة الاستنفار القصوى، واستدعت جميع أطباء الطوارئ في كل أقسامها، وأخذت تتعامل مع الحدث الطارئ الذي لم يبدو جديداً للوهلة الأولى؛ فغزة مرّت بأربعة حروب على مدار السنوات السابقة.
ذعر وهلع عمّ كل أرجاء القسم، أعداد الجرحى يزداد كل لحظة، الطبيب "عليوة" راح يتابع الحالات الأخطر ثم الأقل خطورة بمساعدة من طاقم طبي لم يغادر المستشفى على مدار أيام العدوان.
كان العرق يتصبب من جبينه، والقهر يرافق صوته المنهك، "غالبية الإصابات تركزت في منطقة الرأس مباشرة، والجزء الأعلى من الجسد، ما يعكس إجرام الاحتلال واستخدامه أسلحة قوية جداً ضد المدنيين".
يصمت قليلاً ويعود بذاكرته للوراء حيث يقلب شريط ذكريات معركة "سيف القدس" التي اندلعت في شهر مايو 2021، "كانت تلك المعركة قاسية جداً، لكن ما رأيته خلال الأربعة أيام التصعيد الأخيرة، كان أصعب بكثير، فأعداد الإصابات انهالت بكثرة في نفس التوقيت".
زميله الآخر الطبيب محي الدين الفرا اخصائي الطوارئ، كان حاضراً أيضاً في المشهد إذ لم يتوان عن تقديم الخدمة للمصابين، بعدما استدعته إدارة مجمع الشفاء للحضور للفوري لقسم الطوارئ بسبب التصعيد الإسرائيلي الخطير.
مع دخول وقت العصر، تلّقى "الفرا" اتصالاً من إدارة الشفاء مفاده "عنا حالة طوارئ الآن ولازم تحضر"، فجهّز نفسه وانطلق مُسرعاً من بيته الذي يقع في مدينة خان يونس جنوب القطاع، غير آبه لمسافة الطريق التي سيقطعها في ظل تدهور الأوضاع الأمنية.
قرابة 30 دقيقة قضاها "الفرا" في الطريق لمجمع الشفاء، لم يتلقط أنفاسه، بل راح يرتدي "بزّة الطبيب"، وانهمك بمساندة زملائه بإجراء الفحوصات اللازمة للجرحى، ويطبب آهاتهم.
"أطفال هنا ونساء هناك، ورجال غطتهم الدماء يستلقون على أسرّة قسم الاستقبال والطوارئ"، تلك هي المشاهد الصعبة التي استحضرتها ذاكرة "ملاك الرحمة" بعد مرور يومين على مناوبته "بلا نوم".
لكن المشهد الذي ظل عالقاً في ذاكرته خلال أيام العدوان، كان لطفل يبلغ من العمر 7 أعوام، أصيب إصابة خطيرة جداً في رأسه، كما وصفها "الفرا" والطاقم الطبي معه، لكنه نسي إصابته وكان يرجف خوفاً على اخوانه المُصابين ويرقدون على أسرّة مجاورة.
كالمنقذ الذي يراقب المواطنين ليل نهار خوفاً على حياتهم، فمذ أن دبّ صاروخ إسرائيلي ما في أحشائه القاتلة صوب برج فلسطين السكني وسط مدينة غزة، أطلق رئيس قسم الطوارئ والحوادث في مجمع الشفاء د. هاني الهيثم، انذار الخطر، لاستدعاء الكوادر الطبية بشكل عاجل، بسبب الظروف الأمنية الخطيرة.
الطبيب "الهيثم" أعطى شارة البدء بتنفيذ الخطة المُعدة مُسبقاً من إدارة القسم بعد استدعاء كامل الطاقم، كـ "خلية النحل" انتشر الأطباء كل واحد في مكانه المخصص وفقاً لتخصصه، فما كان العقل الفذ لولا الحروب السابقة التي مرّت على قطاع غزة، وشكّلت درساً قاسياً للكوادر الطبية بقيادة وزارة الصحة، كما يروي.
"الإمكانيات والمستلزمات الطبية قليلة يُضاف إليها نقص الوقود المزمن في مجمع الشفاء، لكن الأمر الكبير هي الخبرة التي اكتسبها الطاقم الطبي على مدار الحروب السابقة"، بنبرة يعلوها الفخر بعد جهد عظيم يتحدث رئيس قسم الطوارئ والحوادث في مجمع الشفاء د. هاني الهيثم.
لم يخفِ الهيثم الذي تحدث إلى مراسل "فلسطين" حجم الانهاك والتعب الشديد الذي انتاب "ملائكة الرحمة" في ذلك القسم الأكثر ازدحاماً خاصة أثناء الحروب على القطاع، فلا عقبات أمام عظمة وجبروت هذا الطاقم الذي يعمل في شح الإمكانيات وانقطاع الكهرباء.
وأنهى حديثه بصرخة ألم ووجع لكل ضمير حي في هذا العالم الذي يعيش في سبات عميق، بأن ينظروا لسجن قطاع غزة الكبير الذي يقطنه أكثر من 2 مليون نسمة، تعثّرت حياتهم بفعل القيود التي فرضتها (إسرائيل) وألقت بظلالها على كل مناحي الحياة بما فيها القطاع الصحي.
هكذا هم الطواقم الطبية في قطاع غزة الذي لا يستسلم مهما كلفه الثمن، الذي يعاني حصاراً اسرائيلياً منذ أكثر من 15 عاماً أطبق بفكيه كـ "الأسنان" على كل قطاعات الحياة، وأبرزها القطاع الصحي الذي بأزمة نقص الإمكانيات وشح الوقود، ما ينعكس سلباً على حياة المرضى والسكان عامة.