ما يحدث في الضفة الغربية من تطورات وأحداث يومية متلاحقة يعقبها تصاعد وتيرة حالة الاحتقان والغضب الشعبي والجماهيري نتيجة تفشي ظاهرة الفلتان الأمني الذي أصبح ظاهرا للعيان بضوء أخضر من الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، وقد شهدت أغلبية مناطق الضفة حالات كثيرة خلال الفترات السابقة من ارتكاب الجرائم ضد المواطنين، كان آخرها ارتكاب مجموعة من المسلحين جريمة اعتداء نكراء، فأطلقوا النار يوم الجمعة الماضي في محاولة فاشلة منهم لاغتيال الأكاديمي الدكتور ناصر الدين الشاعر، نائب رئيس الوزراء الفلسطيني السابق، وذلك في أثناء مشاركته بجاهة زفاف في قرية كفر قليل، ومما لا شك فيه أنّ إطلاق النار على مركبة الدكتور الشاعر وإصابته في قدمه تُدلل على النية المبيتة من عناصر تنتمي للأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية لاستهدافه بالقتل المتعمد مع سبق الإصرار والترصد.
الاعتداء على الشاعر بفتح زعران السلطة النار صوبه عمل جبان يندى له الجبين، ولم يكن أمرا مستغربا، فقد سبق الاعتداء عليه بالضرب في جامعة النجاح الوطنية الشهر الماضي، حيث تم إطلاق الرصاص والغاز على طلبة الكتلة الاسلامية بعد فوزها في انتخابات مجلس طلاب الجامعة، واعتقال عدد منهم، ناهيك بالضرب المبرح، ولم يسلم الصحفيون من عناصر أمن الجامعة، ومنهم من يتبع ويعمل لأجهزة السلطة.
السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تسهل الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة استخدام السلاح لأفرادها وتمنعه عن المقاومين للاحتلال؟ وشتان بين الأول والثاني، إذ إن السلطة تنسق وتتعاون أمنيا مع الاحتلال، أما المقاومون فهم على عكس نهجها، لذا توافق سلطات الاحتلال الإسرائيلية على تزويد السلطة بالأسلحة الحديثة المتنوعة، وتسمح لها بزيادة عدد أفراد قواتها وآلياتها وعتادها العسكري، لكنّها مطمئنة أن هذا السلاح لا يوجّه إلى قوّاتها ومستوطنيها، وعليه تترك عشرات آلاف قطع السلاح في يد زعران السلطة وبلطجيتها لاستخدامه ضد المواطنين؛ لزرع الرعب والإرهاب في نفوسهم، وقد وصل بها الأمر إلى حد تهديد مكونات المجتمع الفلسطيني من شخصيات وطنية وازنة وقامات علمية مشهود لها بوطنيتها داخل المجتمع الفلسطيني، وذلك عملا مع الاحتلال لطمس حرية الرأي، وقتل الروح الوطنية، والتخلص من كل معارض أو مستقل.
واضح أن سلاح قوات أمن السلطة لم يكن يوما لحماية الفلسطينيين، ولا يستعمل لصد هجمات المستوطنين، ولا لوقف اجتياحات قوات الاحتلال اليومية للمدن والقرى الفلسطينية التي تستبيح الضفة جهارا نهارا على مرأى ومسمع هذه الأجهزة التي تختفي من المكان والزمان كي لا تعيق أي اجتياح، بل إن سلاحها موجه نحو صدور الشعب الفلسطيني، إرضاء للاحتلال الذي يشيد بأداء الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة. كيف لا وقد عملت على إفراغ الضفة من سلاح المقاومة للاحتلال، ليبقى السلاح فقط بيدها، لخدمة التعاون الأمني مع الاحتلال. ومن هذا المنطلق يمكن القول إن ما كانت تتبناه حركة فتح خلال طليعتها في ستينيات القرن المنصرم وهو “الكفاح المسلح” لتحرير فلسطين قد تخلت عنه تماما منذ اتفاق أوسلو، وقد انتهى فعليا وعمليا بعد عمليتي “الإخضاع والاحتواء” في عام ٢٠٠٨، لمن تبقى من عناصر كتائب شهداء الأقصى -الجناح العسكري لحركة فتح، الذي انطلق مع بداية الانتفاضة الثانية عام 2000- وقد تم تسليم سلاحهم مقابل عفو إسرائيلي عنهم واحتواء بعضهم في الأجهزة الأمنية.
القضية ليست قضية حفظ أمن، وإنما خلط للأوراق، وإلا لِمَ يُعتدى على المواطنين المسالمين وطلاب العلم والصحفيين والنشطاء السياسيين والحقوقيين وأساتذة الجامعات؟ ولعل قتل الناشط نزار بنات بدم بارد العام المنصرم وأيضًا الاعتداء على الشاعر أكبر دليل على عدم طهر سلاح السلطة الفلسطينية من الدم الفلسطيني. وأما المقاومون فلا يسلمون من التعاون الأمني القائم على قدم وساق بين السلطة، فالاحتلال يصل بكل سهولة للمقاومين في عقر دار السلطة لتصفيتهم جسديا أو اعتقالهم.
المحاولة الفاشلة الآثمة لاغتيال الشاعر، والاعتداءات المتكررة على المواطنين الأبرياء، وقتل آخرين، إنما تدل على انتشار ظاهرة الفلتان الأمني الممنهج، الذي له أهداف باطنة ترجع عدم وجود استقرار أمني، وتهدد السلم المجتمعي كله، فما يواجهه المواطنون في الضفة من ثالوث الاضطهاد والبطش والتنكيل من أجهزة الأمن التابعة للسلطة ليس أقل قساوة مما يواجهونه من اعتداءات قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين. فعندما يطلق سراح المُدانين بقتل بنات، ولا يحاسبون على اقترافهم جريمة قتله، وعندما لا تستدعي الشرطة وأجهزة أمن السلطة الجناة في قضية الشاعر فهذا يدلل على ضلوعها في الجريمة.