حينما تصل إلى بلدة عبسان الكبيرة الواقعة إلى الجنوب الشرقي من مدينة خان يونس، يجذبك مبنى صغير تعلوه قبة من الحجر، تجاوره أرضية من الفسيفساء الملونة الجميلة ذات رسوم لطيور وأوراق نباتية، ويوجد به لفائف زخرفية، وكتابات تاريخية تعود إلى عام 606م.
في الجدران العتيقة لمقام إبراهيم الخليل والأرضية الفسيفساء يتجسد تاريخ من التعايش، حيث يعود بناء المقام إلى القرن الميلادي الخامس. ويضم العديد من الزوايا المتنوعة، ما بين تكايا الطعام والأضرحة التي تعود للعصر البيزنطي، وشكلت بمجموعها إرثًا تراثيًا وأثريًا.
تبين الباحثة في علم الآثار في وزارة السياحة والآثار بغزة هيام البيطار أن الموقع كان بيتاً لأحد القديسين في العهد البيزنطي، ولما توفي دُفِن في البيت وأُقيمت الفسيفساء حوله وتحول إلى ضريح. وإبان الحكم العثماني، تمت تسميته "مقام إبراهيم الخليل"، وتوارد عن السكان المحليين آنذاك أنه "كان إنسان له كرامات، وكان له مكانة عالية بين قومه".
كما يحتوي الموقع من الجهة الشمالية على مساحة صغيرة مكشوفة تحوي قبوراً إسلامية وأخرى بيزنطية، وقد أصبح مكاناً مقدساً لدى المسلمين.
وقد يلتبس على البعض أن مقام إبراهيم الخليل، له علاقة بمقام النبي إبراهيم الخليل عليه السلام وأنه قد مر من هناك، وهنا تؤكد البيطار أن هذا الأمر غير صحيح، وليس له علاقة البتة بمقام النبي إبراهيم، بل يعود إلى ولي صالح يحمل الاسم ذاته.
وتنبه الباحثة في علم الآثار إلى أنه في عام 1997م جرت أعمال تنقيب أثري في المنطقة المجاورة تمامًا لمقام إبراهيم الخليل، وخلالها تم الكشف عن أرضية فسيفسائية وهي منخفضة عن منطقة المقام، ووجد نص كتابي على الأرضية يؤرخ لتاريخ بنائها 660 من تاريخ غزة.
وتلفت إلى أن هذا النص الكتابي يدل على أن غزة كان لها تقويم خاص بها، و660 من السنة الغزية يقابله عام 605 ميلادي.
وتوضح البيطار أن أعمال الحفر كشفت أن المكان عبارة عن ضريح لقديس نصراني، عاش في الفترة البيزنطية، ومن ثم تحول الضريح إلى كنيسة صغيرة (معبد للصلاة).
وتشير إلى أن تخطيط الأرضية الفسيفسائية يُنبئ بأنه في الأصل كان منزلًا صغيرًا لهذا القديس، قبل أن يتم تطويره ليكون كنيسة صغيرة.
وتقول باحثة الآثار: "يعتقد أنه بعد وفاة القديس تم تبليط أرض البيت بالفسيفساء تكريمًا له، وهذا يظهر بأن له مكانة عالية في قومه".
وتشير إلى أن الضريح بني بالطوب اللبن (قوالب تصنع من الطين المجفف بالشمس) ويتكون من أربع حجرات، اثنتان منها مبلطة بالفسيفساء، والحجرة الثالثة توحي بأن القديس كان له مكانة بين القديسين المسيحيين خلال الفترة البيزنطية.
أما الحجرة الرابعة، تبين البيطار أنها مفتوحة على الحجرات الثلاث كممر يسمح باستقبال الناس وزائري المكان.
والأرضية الفسيفسائية تتميز بجمال ودقة صانعيها، حيث تتكون من أشكال هندسية ملونة، وفيها شكل الصليب، والطيور كالحمامة التي تشير للقديسين، وأوراق نباتية، ولفائف زخرفية، وكتابات وزخرفة الصليب المعكوف "المفروكة".
وتذكر البيطار أن الموقع يحمل قيمة أثرية عالية؛ نظراً لاحتوائه على أرضية فسيفساء بيزنطية تنتمي إلى مدرسة الفسيفساء البيزنطية المحلية في جنوب فلسطين، وتشابهت مع أرضيات فسيفساء كل من كنسية "مخيتم" وكنيسة القديس "هيلاريون" وأرضية "أصلان" وأرضية دير البلح.
وتلفت البيطار إلى أن المكان الأثري يخضع حاليًا لأعمال ترميم، وتنقيب كخطوة تطويرية وضعتها وزارة السياحة، وبعد الانتهاء منها، سيكون المكان مفتوحًا للعامة.