ما إن تحط رحالك في المنطقة التي تتوسط بين خان الزيت وطريق الواد في البلدة القديمة في مدينة القدس حتى تجد على يسارك مسارًا يقودك إلى مطحنة الجبريني للطحينة، في عقبة يطلق عليها اسم الشيخ ريحان، لا تبعد عن المسجد الأقصى سوى 30 مترًا.
وما إن تطأ قدماك المطحنة حتى تدرك عراقة وأصالة المكان المبني على الطراز الهندسي المملوكي، الذي يضم بين جنباته مطاحن حجرية تقليدية.
يزيد عمر مطحنة الجبريني على 250 عامًا، وقد ورثها الحاج إبراهيم عن أجداده منذ 140 عامًا ليمتهن وأبناؤه من بعده صناعة السمسم والطحينة بأنواعها وزيت السمسم، كإحدى المهن التراثية النادرة، التي يرفضون تطويرها واستخدام الآلات الحديثة في تصنيعها.
قبل شروق الشمس يتوجه المقدسي إسحاق الجبريني (أبو رائد) إلى المطحنة لتحميص السمسم وإنتاج الطحينة وغيرها من المنتجات التي يعتمد في إنتاجها على الطريقة التقليدية.
يقول لصحيفة "فلسطين": "عمل والدي في المطحنة وسنه لم تتجاوز ثماني سنوات وحينها لم يكن يملك مصروفه اليومي، حينها كانت ملكية المطحنة تعود إلى ثلاث عائلات. وبعد 40 عامًا من العمل تجند في صفوف الجيش العثماني ليشارك في الحرب العالمية الأولى، وبعد 9 سنوات من الخدمة في الجيش عاد وأصبح شريكًا في المعصرة بشراء ثلثيها، ليتنازل الثالث عن حصته بعد سنوات".
100 عام من العمل استطاع خلالها والده توريثه وشقيقه تلك الصنعة بخطواتها التقليدية، وحافظا عليها حتى هذا اليوم دون إدخال أي شيء من الآلات الحديثة رغم أنها توفر الوقت والجهد بعيدًا عن الجودة.
ويوضح الجبريني أن المطحنة تنتج كل ما يتعلق بمنتوجات السمسم بكميات قليلة لاعتمادها على طريقة الطحن اليدوي، فالإنتاج اليومي في حال الطحن الجيد لا يتعدى 50 كيلوجرامًا من الطحينة، في حين يصل إلى 70 كيلوجرامًا إذا ما اعتمدوا على الطحن الخشن.
وخلال عملية إنتاج الطحينة وتحميص السمسم التي تتطلب جهدًا جسديًّا كبيرًا، يضطر الجبريني إلى حمل السمسم ونقله 32 مرة حتى يتحول إلى طحينة.
آلية عمل المطحنة
ويشرح آلية عمل المطحنة، بالإشارة إلى البدء في نقع السمسم في أحواض مملوءة بالماء المملح لتُفصَل حبة السمسم عن القشرة، وبذلك لا تمتص الحبة المياه فتنتفخ وتنكسر عند التقشير، ويمكننا من الحفاظ على حجمها، ليترك مدة عشرين ساعة، ثم يُنقل إلى حوض آخر بتركيز ملحي أعلى تتم فيه عملية الفصل، إذ تطفو حبة السمسم على السطح على حين ترسو القشور في القاع، ليتم بعدها انتشال السمسم وتجفيفه وتحميصه، إذ يحتاج كل 120 كيلو إلى ساعتين من التحميص.
ويقول الجبريني إنه يعتمد على الفرن البلدي للتحميص، والحجر البركاني للطحن، وقبل مدة عمل على جلب آلة حديثة مستخدمة في بعض المطاحن، إلا أنه وجد فرقًا واضحًا في جودة المذاق دفعه إلى العدول عن المطحنة الحديثة، باستثناء اعتماده على الكهرباء في تدوير رحى المطحنة الحجرية بدلًا من اعتماده على الحيوانات.
ويلفت إلى أن اعتماد المطحنة على الطريقة التقليدية يجعل قوتها الإنتاجية أقل مما تصدره المطاحن الحديثة، الأمر الذي يحول دون تصدير منتجاته إلى مدن الضفة، فيعتمد على تسويقها من خلال محل صغير في مدينة القدس.
ويشير الجبريني إلى أن المطحنة تصنع أربع أنواع من الطحينة يصنع كل منها بطرق مختلفة، كالطحينة البيضاء، التي تحمص عن طريق الماء من دون نار، والطحينة الحمراء التي تصنع داخل الفرن 10 ساعات متواصلة على نار هادئة.
على حين هناك نوع آخر من الطحينية يُصنع بالسمسم داخل المعصرة، ويطلق عليه "الطحينة بقشرها"، إضافة لطحينة "القزحة" التي تكون قليلة الزيت.
ولا يقتصر استخدام الطحينة على المأكولات والمقبلات، بل تدخل في علاج التهابات اللثة وتشققات الشفاه والتهاب الحلق، وزيادة المناعة وتقويتها، ومقاومة الجسم من الأمراض، ولعلاج نقص الكالسيوم وفقر الدم.
ضرائب وإعاقة الإعمار
في معرض حديثه، تطرق الجبريني إلى المشكلات التي تواجهه، إذ يفرض الاحتلال الإسرائيلي شروطًا تعجيزية لضمان استمرار عمل المطحنة، إذ ترفض بلدية القدس إعادة إعمار المطحنة وتشترط دفع مبالغ مالية باهظة لذلك، وتهدد بسحب رخصة مزاولة المهنة منذ 13 عامًا بحجة أن المكان غير صالح لإنتاج المواد الغذائية، لافتًا إلى أن لديهم أوراقًا ثبوتية وتراخيص من زمن الخلافة العثمانية والاحتلال البريطاني.
ويضيف: "إلى جانب معاناتنا من صعوبة نقل المواد الخام، والضرائب المفروضة على المحل التجاري في البلدة القديمة، ندفع سنويًّا 22 ألف شيقل ضريبة ملكية المسماة "أرنونا"".
يُضاف لذلك ضريبة تفرضها البلدية تتراوح من 6 إلى 8 آلاف شيقل كل شهرين، و90 ألف شيقل تدفعها العائلة سنويًّا وتُسمى "الفروقات".
ويرى الجبريني أن تمسكه بالعمل في المطحنة حتى هذا اليوم هو نوع من التحدي لبلدية الاحتلال، ليكون وعائلته شوكة في حلقهم، رغم محاولاتهم لتحويل المكان لشيء تراثي وسياحي في البلدة القديمة.
ويذكر أن البلدة القديمة كانت تحتوي على 28 معصرة لزيت السمسم والطحينة، ولكن بسبب الأوضاع السائدة باتت تغلق أبوابها واحدة تلو الأخرى، ولغلاء سعر الزيت مقابل زيت الذرة.