نحن نعلم أن قضية فلسطين تُعدُّ منذ نشأتها ولا تزال هي قضية العالم الإسلامي بأسره، وأنها ميزان كرامته، ومقياس هيبته، ومظهر قوته، وهذا يدلنا على عمق تاريخ هذه القضية وعزلها عن عمقها الإنساني «صراع فلسطيني_إسرائيلي»، كان ولا يزال هدفًا رئيسيًّا للاحتلال والقوى الدولية الداعمة له، في الواقع المسألة حاليًّا تتعدّى الصراع السياسي والجغرافي والديمغرافي، حتى وصل الأمر لتسابق الأحداث الميدانية والتفكير العميق نحو استراتيجية التحرير والعودة، وأنّ الصمت الدولي، والدعم الأميركي المطلق، والتطبيع العربي المنفلت، أضاع الحق الفلسطيني وحرف البوصلة عن اتجاهها الصحيح، وذلك كله ليشعر كيان الاحتلال بالاطمئنان وعدم القلق من أيّ رد فعل جاد لإجراءاتها الاستيطانية، كما أنه يعزّز لها الحماية والحصانة والأمان من أية عواقب أو أية مساءلة؛ فالحصانة موجودة أصلًا، ولكنها تتكرّس في ظلّ الأوضاع الراهنة، فأما المُحتل نفسه يخشى قوة المقاومة المتزايدة وتطوير سلاحها وفكرة صياغتها تشكيل محور وتحالف يهدف لزوال ما يدعى إسرائيل.
حدّدت فصائل المقاومة الفلسطينية بقطاع غزة استراتيجياتها نحو مشروع التحرير والعودة، والتي تهدف لتحقيق إنجازات وطنية من خلال خوضها مسارات التفاوض وإدارة الصراع مع العدو الصهيوني، وكانت القضايا الوطنية والثوابت المركزية ضمن أولويات تلك الاستراتيجيات على المستوي السياسي والعسكري والأمني، وهنا شكلت المقاومة محطتها الأولى عقب اندلاع انتفاضة الأقصى واقتحام المجرم شارون رئيس حكومة الاحتلال آنذاك للمسجد الأقصى المبارك، تلاها تنفيذ سلسلة من العمليات الاستشهادية والفدائية في القدس الشريف والداخل المحتل، ثم تطوير سلاحها الدفاعي من القنبلة والقذيفة القصيرة للصاروخ، الأمر الذي ساعد في الانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة، مرورًا بالعملية البطولية (الوهم المتبدد) وأسر الجندي الصهيوني جلعاد شاليط، وتشكيل أول خلية أُطلق عليها "وحدة الظل" ترعى أسرى المحتل وفق الشريعة الإسلامية والتي تحتفظ اليوم بــ4 أسرى من جنود جيش الاحتلال، فيما وصلت مجموع تلك العمليات عربيًّا وفلسطينيًّا إلى (38) عملية تبادل منذ عام 1948م، وحتى نهاية العام 2011 وكانت أبرزها صفقة وفاء الأحرار برعاية المقاومة التي أرغمت المحتل على تنفيذها بشروط المفاوض المقاوم، ثم خاضت المقاومة معارك ضروسًا خرجت منها بقوة أكثر من ذي قبل، صامدة كالصخرة الصمّاء في وجه الاحتلال الغاصب للحقّ الفلسطيني.
والمحطة الثانية والأبرز في الصراع الفلسطيني الصهيوني هي اعلان صفقة وفاء الأحرار التي أجرتها عام 2011م لتبادل الجندي الأسير جلعاد شاليط، مقابل الإفراج عن 1025 أسيرًا وأسيرة من مصلحة السجون الصهيونية، حيث تُشكّل قضية الأسرى بالنسبة للمقاومة الفلسطينية، واحدة من الملفات الحيوية التي توازي بأهميّتها قضية القدس وعودة اللاجئين، لما تُمثّله في الوجدان الوطني الفلسطيني، وما تعنيه من مضامين نضالية وإنسانية تطال بآثارها كلّ المجتمع الفلسطيني الذي لم يبق بيت فيه إلا وتربطه صلة قرابة بمعتقل أو فدائي أو شهيد، ففي السجون الفلسطينية اليوم، ثمة 5000 أسير فلسطيني، جزء منهم حُكموا بعدة مؤبدات وهم أصحاب المحكوميات العالية الذين لا يمكن إطلاق سراحهم إلا بصفقات تبادل بين المقاومة والعدو كما جرى في تجارب سابقة، وقبل أعوام وضعت المقاومة الفلسطينية هدفين لكلّ مقاتل ومجاهد فلسطيني حين ينطلق إلى المعركة، وهما: الأول/ الإثخان بقتال العدو، والثاني/ أسر جنود "صهاينة"، بهدف مبادلتهم بأكبر عدد ممكن من الأسرى الفلسطينيين، لا سيّما الحرائر القابعات خلف قضبان الاحتلال والأسرى الذين حُوكموا بمؤبدات عالية بهدف تبييض السجون وهذه المحطة الأبرز في الصراع التي تُدار بمستوى عالٍ من القوة والحكمة.
والمحطة الثالثة كانت تُمثّل نقلة نوعية للمقاومة من خلال تشكيل غرفة عمليات مشتركة تترأسها كتائب القسام، حيث مارست المقاومة تطوير منظومتها الدفاعية عقب عاصفة الربيع العربي، وخاضت على أثرها معركة 2012م والإعلان عن صواريخ جديدة ومتطورة تدخل الخدمة لأول مرة وصلت مداها 80كيلو مترًا، ومعركة عام 2014م التي نفّذت فيها المقاومة عمليات بطولية عديدة، منها اقتحام خلف خطوط العدو من مسافة صفر ومباغتة جيش الاحتلال واقتحام قاعدة زيكيم العسكرية من وحدة الضفادع البشرية القسامية وأسر جنديين شرق رفح والشجاعية، هذا وقد أعلن رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية والناطق العسكري لكتائب القسام الملثم أبوعبيدة، أنّ "لدى المقاومة 4 جنود إسرائيليين منذ معركة عام 2014"، وتعمل المقاومة منذ مدة على الوصول إلى اتفاق لإتمام صفقة تبادل جديدة على غرار صفقة "وفاء الأحرار" التي أجرتها عام 2011، فيما حاول العدو بعد معركة سيف القدس الربط بين إطلاق سراح جنوده وبين رفع الحصار عن غزة وإعادة الإعمار، إلا أنّ رد المقاومة عبر الوسيط المصري كان الرفض وإرسال رسائل تهديد بأنها جاهزة لتجديد المواجهة إذا بقيت شروط إسرائيل كما هي، وهناك خطوات على الأرض منها استئناف الإرباك الليلي والفعاليات الخشنة والبالونات الحارقة وصولًا إلى مقتل قناص إسرائيلي على حدود القطاع، ونتيجة لهذه العوامل، "انصاع العدو وامتنع عن ربط الإعمار وفكّ الحصار بإطلاق جنوده، كما وافق على مبدأ الصفقة لإتمام التبادل"، ثم تراجع وجُمّدت المفاوضات على أثرها.
المحطة الرابعة مثّلت ضربة استخباراتية وفشلًا أمنيًّا وعسكريًّا كبيرًا لجيش الاحتلال وإنجازًا وطنيًّا بامتياز للمقاومة الفلسطينية ونقلت إدارة المعركة للصراع الفكري، حيث مهّدت الإدارة الأمريكية أفقًا سياسيًّا لإتمام صفقة القرن والخذلان العربي للتطبيع مع كيان الاحتلال علنًا وسرًّا، وحاولت استهداف المقاومة في عقر دارها بغزة فما كان حلمًا انقلب حقيقة لقلب المعادلة (حيث انقلب السحر على الساحر)، وحقّقت المقاومة عدة إنجازات وطنية أهمها عملية حد السيف وكشف هوية فريق القوة الخاصة سيرت متكال ومقتل قائدها شرق خانيونس، ثم تلاها صياغة معادلات العين بالعين والقصف بالقصف والصاروخ بالصاروخ وفرض معادلات عسكرية وميدانية، ثم أحداث الأقصى والقدس واستغاثة المقدسيين بقائد أركان هيئة المقاومة الفلسطينية #محمد_ضيف، وخوض معركة سيف القدس عام 2021م ودخول المسيرات الانتحارية والاستطلاعية للخدمة العسكرية وتشكيل تعاون مشترك مع محور المقاومة (غزة_لبنان_إيران).
بدورها نجحت المقاومة الفلسطينية في تحقيق وتنفيذ معادلة ربط الساحات وتوحيد الجبهات (القدسغزة والضفةالداخل)، الأمر الذي لم يؤخذ بالحسبان جيداً هو التهديد الاستراتيجي للأمن القومي الصهيوني والفشل الذريع لدي الأجهزة الاستخبارية والأمنية في منظومة العدو، بينما أعادت صواريخ المقاومة خلال معركة سيف القدس عام 2021م، فتح الأفق الإستراتيجي للقضية الفلسطينية من باب التضامن مع القدس والأقصى وأهالي حي الشيخ جراح، وكان الظن قد أغلق ما أسمته «صفقة القرن» بالتقسيم الزماني والمكاني للأقصى، بالتعاون مع الدويلات الصهيونية الناطقة بالعربية والمهرولين للتطبيع، لمواجهة محاولات تجزئة القضية الوطنية وحرف البوصلة عن مسار التفاوض مع إسرائيل تمهيداً لتصفية القضية الفلسطينية كونها قضية جامعة للكل الفلسطيني والتي يجب سرعة التوافق عليها كاستراتيجية وطنية للحفاظ على ما حققت من انتصارات وانجازات للحفاظ على وحدة الشعب والهوية.
أظهرت المقاومة الفلسطينية أنها تجيد القفز فوق الألغام والكمائن في الميدان، والمفاوضات التي عبرت عن المرونة والحيوية لدى فصائل المقاومة، بالنسبة للكثيرين فإن المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية في القاهرة ليست أكثر من فخ يهدف لتنازل المقاومة، ومنعها من قطف ثمار انتصارها العسكري على الأرض، لنزع صمودها في وجه الاحتلال، بينما يرى اخرون ان المقاومة تمكنت من توجيه ضربات إلى عمق المواقع الصهيونية المقامة على الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1948، واستطاعت تكبيد المحتل خسائر هي الأكبر في تاريخه مقارنة بالمدى الزمني وقوة العتاد العسكري، فيما يعرف بالانتصار غير المتكافئ.
الجميل أن "أبطال المقاومة، الذين يجلسون على طاولة المفاوضات في القاهرة، تجنبوا الوقوع في الفخ، واستطاعوا القفز فوق "حبال الشيطان" وراوغوا الألغام التفاوضية ببراعة قل نظيرها، وهنا يسجل المفاوضون إنجازا سياسيا وبراعة أمنية واستخباراتية لا يقل أهمية عن الإنجازات العسكرية على الأرض، ولا شك أن كيان الاحتلال يسعى إلى "تفكيك الانتصار الفلسطيني" و"تخريب الحفلة" كما يقال في اللهجة العامية، ويساعدهم في ذلك "الوسيط المصري" بقيادة نظام السيسي، وهنا سوف أقتبس ما نقله مراسل الشؤون الفلسطينية في الإذاعة العبرية يغآل بيرغير "لا يحمل المصريون عصا في غرفة المباحثات مع حماس، بل مدفعا، ويمارسون كل الضغوط عليهم من أجل إجبارهم على القبول بوقف إطلاق نار بدون أي مقابل"، ويشبه المعلق العسكري في صحيفة "يديعوت أحرنوت" الغرفة التي تُجرى فيها المفاوضات على وقف إطلاق النار في القاهرة بأنها "صالة سيرك" تستخدم فيها مصر كل الوسائل من أجل "ترويض" المقاومة، أما المعلق السياسي في قناة التلفزة الصهيونية الثانية أودي سيغل فيقول إن آليات التفاوض المصري مع حماس تقوم على أساس التحايل، وأن الجانب المصري يعرض "صيغا فضفاضة" تسمح لإسرائيل بعدم احترامها في المستقبل، ويشير يغآل بيرغير إلى أن إصرار الجانب المصري على عدم مناقشة مسألة معبر "رفح" من جانب، ورفضه مجرد مناقشة طلب المقاومة تدشين ميناء أو مطار في قطاع غزة يهدف بشكل أساس لتقليص هامش المناورة المتاح، في الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل توجيه الضربات لقطاع غزة.
هذه الممارسات من قبل الحليفين "المصري الإسرائيلي" على طاولة المفاوضات تعكس مدى صعوبة المهمة التي يقوم بها "المفاوض المقاوم" في القاهرة، وقد تعاملوا مع ذلك عبر إقامة تحصينات وبناء "دشم" سياسية قوية عكستها تصريحات قيادات بارزة بحماس وأهمها: "لن يحصل العدو الإسرائيلي على طاولة المفاوضات على ما عجز عن أخذه في الميدان، وأن نزع سلاح المقاومة خط أحمر، فنزع أرواحنا أسهل من نزع سلاحنا، وأن هذا السلاح غير قابل للتفاوض، وأن على العدو الصهيوني الذي خسر الحرب أن يستجيب للمطالب الفلسطينية وعلى رأسها رفع الحصار"، لكن هذه المطالب تتعرض للمراوغة "الإسرائيلية-المصرية" عبر تقديم صيغ "هلامية وفضفاضة" وتقديم مبادرة مصرية جديدة تقوم على أساس "التدرج" في المطالب" لتفكيك مطالب الشعب الفلسطيني "خطوة خطوة" بعد أن فشلت الآلة العسكرية بالتهديد والوعيد، "المفاوض المقاوم" يبدع في القاهرة، كما أبدع المجاهدون والمناضلون على الأرض في قطاع غزة، وهو إبداع سياسي يستجيب لمطالب الشعب الفلسطيني ويعبر عن الوفاء لدماء الشهداء والجرحى ونصف مليون مشرد هدمت بيوتهم، وهو إبداع لم يكن ليكون لولا الحاضنة الفلسطينية للمقاومة التي أبدعت بتفكيك "كمين" مفاوضات القاهرة.
الفرق بين الأفـــق الإستراتيجي بين مساري «المقاومـــة» و «المفاوضــات»
مسار المقاومة مفتوح على الدوام على الضمير الوطني والإنساني والعالمي بكل قواه المعنوية والروحية التي تأبى الظلم وترفضه أيًا كان مصدره، وتقف إلى جانب المظلوم وتنصره، وقواه النضالية التي تكافح من أجل نيل حقوقها بكافة أشكال الكفاح الوطني بما في ذلك الكفاح الشعبي والمسلح، وهذا هو سر اتساع دائرة التأييد للشعب الفلسطيني ومقاومته عبر العالم، في مقابل انحسار دائرة التأييد لكيان الاحتلال في الحكومات الغربية التي صنعت هذا الاحتلال ولا تزال تمده بأسباب البقاء وبأسلحة العدوان، وهذا المسار المقاوم مفتوح أيضًا على «الشرعية الدولية» التي تعطي للشعوب المحتلة حق مقاومة الاحتلال بكل وسيلة ممكنة، وبالقوة المسلحة حتى تنال حريتها وتحقق استقلالها كاملاً غير منقوص وفق ما نص عليه القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف.
أمّا مسار المفاوضات في ظل الاحتلال، فهو مسار مغلق ومحكوم بموازين القوة المادية المختلة على الأرض، وهذه الموازين تكون دائمًا في صالح قوة الاحتلال، وهو مسار محكوم عليه بالفشل، ولم يشهد تاريخ حركات التحرر الوطني مرة واحدة أنّ «المفاوضات» وحدها أدت إلى الاستقلال أو زوال الاحتلال، وكانت كل تجارب المفاوضات التي نجحت بين الاحتلال والقوى الوطنية المطالبة بالاستقلال عبارة عن مفاوضات من أجل ترتيب خروج المحتل وتنظيم رحيله، ولم تكن للمساومة على حق واحد من الحقوق الوطنية، ناهيك عن الحقوق الغير قابلة للتصرف، ومسار المفاوضات في قضايا التحرر الوطني لأنه ينكفئ بأطرافه على أنفسهم، ويتركهم وحدهم وجهًا لوجه من عدوهم، ويصرف اهتمام الضمير العالمي عنهم، ويحول جولات التفاوض إلى عمل عبثي بأتم معنى الكلمة، وهو ما آلت إليه مفاوضات «عملية السلام» منذ أوسلو في التسعينيات إلى اليوم، أي على مدار بضع وثلاثين سنة تقريبًا.