تختلف قدرات القادة حسب مواهبهم القيادية بدءًا من فهم التناقضات والتعقيدات والقدرة على تحليلها، وانتهاءً باستشراف مآلات الأحداث ومن ثم اتخاذ القرارات دون تردد في اللحظة التاريخية الحاسمة التي إن مرت سيصبح القرار بلا قيمة أو أثر، هذه القدرة القيادية قلما نجدها متوافرة في القادة الذين يميل معظمهم للرتابة في القيادة والتركيز على رسم السياسات المستوحاة من الدراسات التقليدية التي قد تحافظ على الاستقرار ولكنها لا تحدث أبدًا قفزات نوعية في مصالح الدول التي يقودونها، ومن أهم ما يمكن أن يميز القادة قدرتهم على قراءة التحولات التاريخية وتغيُّر موازين القوى والقدرة على التموضع في المكان الصحيح في الوقت الدقيق الذي يصنع الفارق.
وقد شهد العالم مثل هؤلاء القادة الاستثنائيين مثل رئيس الوزراء البريطاني السابق ونسون تشرشل الذي قرأ معادلة موازين القوى إبان الحرب العالمية الثانية بدقة، فاستطاع أن يقنع الولايات المتحدة بالخروج من سياسة العزلة التي كانت قد انتهجتها لنفسها والبدء بتزويد أوروبا بالموارد اللوجستية لتعويض النقص الحاد فيها من جراء الحرب لتتمكن من الصمود، ومن ثم اتخاذ قرار انزال القوات البريطانية على شاطئ النورمندي ليحدث الفارق وتكون بداية الهزيمة للقوات الألمانية، ويحسب أيضا للملك عبد العزيز آل سعود -رغم اختلافي الفكري مع ما ذهب إليه– من استغلال اللحظة التاريخية واستشراف هزيمة القوات العثمانية في الحرب العالمية الأولى والتحرك على هذا الأساس لتأسيس المملكة العربية السعودية، وكذلك يحسب للزعيم الصهيوني دافيد بن غوريون استغلال اللحظة التاريخية في انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية واستخدام وعد بلفور لتأسيس "دولة إسرائيل".
لا شك أن العالم اليوم يشهد تحولات سيكون لها أثرها على خارطة موازين القوى العالمية وملامح الصراع الكوني تتبلور شيئًا فشيئًا مع مرور الوقت الذي يشي بإرهاصات هذا التحول.
الصراع الدائر في شرق أوروبا يوظفه الروس لتغيير النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة من خلال تحالف يمتد من روسيا عبر إيران نحو الصين، هذا التحالف الهائل القدرات والإمكانات أصاب قادة أوروبا بالهلع فأخرج العديد من دول هذه القارة عن سياساتها بالحياد المستقرة منذ عقود لشعورها أن الوقت لا ينتظر والأحداث تتسارع، والإدارة الأمريكية التي قادت العالم منفردة لمدة ثلاثين عامًا تشعر أن قبضتها تتفلت عن عصا القيادة لذا تراها تسابق الزمن في جمع شتات قوتها وحشد حلفائها وتثبيت سيطرتها على مكامن القوة الكونية الجيوسياسية والاقتصادية وفي ذلك السياق تأتي زيارة الرئيس بايدن للمنطقة، وفي المقابل تُعيد بعض القوى الإقليمية تموضعها وفقًا لقراءتها لخريطة الأحداث فترسم علاقاتها وفقًا لمصالحها بعيدًا عن الأبعاد الأيديولوجية أو المواقف الشعبوية، كل ذلك في محاولة منها لإيجاد موطئ قدم لها في المشهد العالمي المتشكل أو على أقل تقدير المحافظة على موقعها دون تراجع.
وفي زحمة هذه الأحداث السياسية الكبرى لم نلمس أي رؤية عربية سواء أكانت جماعية أو فردية لاستغلال اللحظة التاريخية للخروج من حالة الخضوع التام لسياسات الولايات المتحدة طوال الفترة السابقة، التي جعلت من القضايا العربية والقضية الفلسطينية على وجه التحديد أدنى سلم اهتماماتها ولم تنجز أي من وعودها للعرب، في حين أنها استغلت مواردهم وثرواتهم واعتصرتهم حتى آخر قطرة وتفننت في إذلالهم ففرضت الحصار على بعضهم تارة والتبعية المهينة على معظمهم تارة وشنت الحرب المدمرة على من حاول الخروج على هيمنتها تارة.
صحيح أننا شهدنا مؤخرًا بعضًا من التململ وإن شئتم قليلًا من التمرد على توجهات الإدارة الأمريكية خصوصًا في موضوع تعويض احتياجات أوروبا من الطاقة التي خلقتها الحرب الروسية الأوكرانية ولكن ليس بالحد الذي يمكن أن يقال عنه خروجًا عن السياسة الأمريكية.
العرب الآن على مفترق طرق ولديهم من الإمكانات والقدرات ما يؤهلهم لتبوء مكانة دولية تليق بهم إذا أحسنوا القراءة واتخذوا القرارات المناسبة، وهذا ما تسعى إليه جميع القوى الإقليمية في المنطقة وفي مقدمتها (إسرائيل) التي برعت أيما براعة في استغلال اللحظات التاريخية الفارقة بكفاءة تفوق التصور والتي كان آخرها تحويل ثورات الربيع العربي إلى نكبات لحقت بشعوب المنطقة وما تنتج عنها من تفتيت محور المقاومة وجر عدد من الدول العربية نحو التطبيع ومن ثم محاولة تسيد المنطقة.
أظن أن القوى المتصارعة اليوم بحاجة ماسة إلى ضمان اصطفاف العرب إلى جانبها، فهم يقطنون على مساحة 14 مليون كيلومتر من اليابسة، ويمتلكون أكثر من 55% من الاحتياطيات المؤكدة من النفط، وأكثر من 27% من الاحتياطيات المؤكدة للغاز الطبيعي، وفى نفس الوقت ينتجون حوالى 30% من الإنتاج العالمي للنفط، وأكثر من 16% من الإنتاج العالمي للغاز الطبيعي بحسب تقرير بريتش بتروليوم الإحصائي، وعلى العرب أن يدركوا مدى تأثير قدراتهم ودقة اللحظة ويتخذوا القرارات المناسبة التي تحقق مصالحهم، وإلا فإن مزيدًا من الضعف والهوان وربما التفتت بانتظارهم.