فلسطين أون لاين

 من الرعيل الأول

بالفيديو كتائب القسام تتحدث عن أحد جنرالاتها العسكريين

...

صفحات المجد لابد وأن تقلّب ويجد فيها الإنسان أسماءً لامعة لا يمكن أن تنسى عبر سني العمر الطويلة ولا يمكن أن يخفيها الغبار خلف ستاره، إنها أسماء من نور يفتخر بها كل العالم وبالأخص الفلسطينيين الذين يعرفون قيمة قادتهم ويحفظونها في قلوبهم، ومن هذه النماذج اللامعة والمضيئة والمتلألئة في سماء الوطن الحبيب الشهيد القائد القسامي جميل وادي "أبو إبراهيم".

"جميل وادي" قد أرعب الصهاينة في سنوات الانتفاضة الأولى وجعلهم يحسبون ألف حساب في كل مرة يريدون أن يواجهوا أبناء القسام والمقاومة بشكل عام، فكان يخرج لهم من بين أزقة المخيمات ومن بين أشجار البيارات ليرعبهم ويوقع فيهم في كل مرة قتلى وجرحى ومصابين بأمراض نفسية، علاوة على أسر جنود والاستيلاء على سلاحهم وقتلهم.

جميل وعملية الخط الشرقي

في أحد الأيام المباركة من أيام الانتفاضة الأولى انطلقت سيارة يقودها جميل وادي، وإلى جواره الشهيد عماد عقل، وفي الخلف الشهيد أحمد انصيو، لتسير وفق خطة رسمها جميل نحو الخط الشرقي لمدينة غزة، وعلى هذا الطريق يمر فجر كل يوم جيب دورية عسكرية صهيونية للقيام بأعمال الحراسة اليومية.

انطلقت خلفه سيارة البيجو ثم تجاوزت الجيب العسكري لتنطلق الحمم القسامية من بندقية كلاشنكوف يحتضنها عماد عقل، وبندقية M16 يتولى توجيهها أحمد انصيو، وجميل يتحرك وفق الخطة المناسبة، وها هو الجندي الصهيوني في الخلف يترنح، وها هي زخات الرصاص الهدار تصيب سائق الدورية الصهيونية والقائد المجاور له.

ينطلق جميل نحو مدينة غزة وعبارات التهنئة تنطلق من كافة المجاهدين نحو بعضهم البعض ورياح كانون الأول الباردة تلفح الوجوه المجاهدة وبعد أقل من ساعة تتواتر الأنباء بمقتل الجنود الثلاثة الذين استقلوا الجيب العسكري.

سعادة تغمر الجميع

فهنا قد سعد الجميع بهذه الأنباء التي أقضت مضاجع الصهاينة فهذا التحول النوعي باتجاه العمل العسكري من قبل كتائب القسام كان نذير شؤم للاحتلال، فها هي الكتائب تتبلور لتشكل قوة عسكرية لا يستهان بها، وربما لذلك تعجل الكيان خطوته التصنيعية بهذه العملية التي وقعت بتاريخ 7/12/1992م.

بعد هذا العمل الجهادي النوعي الذي هز أركان القيادة العسكرية الصهيونية دفعها بعد أيام، وتحديداً في الثالث عشر من ديسمبر إلى اتخاذ قرار الإبعاد الجماعي لكوادر وعناصر وأنصار حركة المقاومة الإسلامية حماس والجهاد الإسلامي.

كان جميل وادي أكثر السعداء بهذا الإنجاز، فهو قائد المجموعة التي تحركت لهذا العمل الرائع وهو الذي يبدأ الآن مسيرة جديدة للكتائب القسامية فقد تم اختياره قائداً لمجموعات المطاردين القسامية في قطاع غزة بعد أن رحل الشهيد "ياسر النمروطي" الذي كان يرى فيه جميل القدوة في الولاء والإخلاص والجهاد والفدائية.

كما كان يرى في المجاهد "يحيى السنوار" المعلم والأستاذ، ولا يملك جميل أمام هذا الفتح المبين إلا أن يخر ساجداً لله رب العالمين يحمده على عظيم كرمه وهو يردد "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى".

جميل في جوف الليل

عاش جميل هذه الليلة في حلم جميل وقلبه الراقص على أنغام زخات الرصاص يجوب به كل الأرجاء، ومازال يبتهل إلى الله تعالى أن يحفظ المجاهدين خاصة وفي ظل منع التجول الذي فرض على مدينة غزة بأكملها.

يرحل جميل بخاطره إلى خانيونس مدينة الفداء التي عشقها، وهناك اتجه إلى منطقة مثلث الرعب الحمساوي المجاور لمسجد عباد الرحمن، هناك ذاق المحتل أصنافاً من المواجهات الفدائية العارمة، طاف في المسجد الحبيب إلى قلبه وتفقد كل جدار وعمود، وتوجه إلى المحراب وكم يشعر بالانتماء لمسجده مسجد الإمام الشافعي الذي درجت فيه خطواته الأولى حيث تعلم أبجديات العمل الإسلامي.

جميل والسنوار

تذكر بكل الفخر أستاذه "يحيى السنوار"، حيث مكث ما يقرب الشهر ويحيى يجري اختبارات أمنية لشخصية جميل حتى نجح فيها وضمه إثر ذلك إلى جهاز الأمن والدعوة (مجد) في حركة المقاومة الإسلامية حماس، وكان ذلك قبل انطلاق الانتفاضة المباركة.

وذكر يوم انطلقت الانتفاضة وأجج لهيبها شباب الكتلة الإسلامية والتي كان جميل أحد أبنائها في الجامعة الإسلامية، كان يدرس في كلية أصول الدين، ويومها جاءت تعليمات صريحة من السنوار بالخروج إلى الشوارع وإشعال الإطارات وتنظيم المظاهرات ورجم الحجارة وإدارة الفعاليات في منطقته.

جميل في الأسر

استمر جميل بهذا الحجم من المبادرة والنشاط والسبق حتى قدمت قوات الاحتلال إلى منزله في مطلع الانتفاضة، وكان ذلك بتاريخ 18 -1- 1988 اعتقل مع شقيقه الأصغر زهدي، ومكث في السجن ستة وثلاثين يوماً في تحقيق متواصل، وكانت هذه من أطول فترات التحقيق الفعلية في تلك الفترة.

وبعد أقل من شهر من خروجه من السجن، اعتقل أثناء مواجهات لقوات الاحتلال، وفي محكمة عسكرية نال الحكم الأقصى على رشق الحجارة، حيث حكم بالسجن عاماً ونصف العام، و تم إعلان اسمه في الإذاعة والتلفزيون الصهيوني وفي الصحف العبرية، أصدر الأمر بالحكم الأول من نوعه اسحق مردخاي القائد العسكري للمنطقة الجنوبية حينها، ورحل جميل إلى سجن النقب الذي افتتحه وإخوانه، وكم عانوا مواجهة مشقات الحياة في الشمس اللاهبة والمعاملة السيئة والمقومات البدائية.

جميل والقسام

اختار "جميل وادي"طريق ذات الشوكة فساهم بشكل فعال في تأسيس كتائب القسام في خانيونس، وانطلق يؤدي دوره الطليعي الجهادي من خلال إعداد وتجهيز وشراء وتدريب الكوادر الفاعلة واستمر يؤدي هذا الدور الريادي حتى جاء قدر الله ليرسم للمتوثب نوراً وناراً مسلكاً جديداً ودرباً متميزاً للطليعة الفذة من الكتائب القسامية ورجالها الأوائل، وذلك حين محاولته شراء سلاح لكتائب القسام وتم كشف شخصيته لتاجر الأسلحة، ومن يومها غدا جميل مطارداً وقرر ألا يقوم بتسليم نفسه لقوات الاحتلال، وكان عليه إذاً أن يخوض مرحلة التحدي بكل العزم والبذل والمضاء.

لم يكن هذا العطاء جديداً على رجل عركته الأيام وخلقت منه هذه الشخصية القيادية الصابرة المتقدمة فخاض الغمار بكل عزم وثبات، وكان جميل يوم أعلن قبوله دخول المرحلة مسؤول الجناح العسكري لحماس في خانيونس.

كان هم جميل الأول في تلك المرحلة ثبات تلك النبتة التي تم غرسها، مما خلق الحرص الكامل واللازم فلا ينام جميل أو يصحو إلا وتراوده أحلامه ببناء الجهاز العسكري واستقرار قاعدة العمل، وقد كانت تلك الأثناء قاعدة العمل و التي لازالت محدودة بعدد ضئيل ممن حملوا أرواحهم على أكفهم وطاردوا الموت في كل مكان حتى لاحقوه في عقر داره، فترى جميل في كل مكان يخطط للعمل العسكري ويراقب وينفذ ويقيم ويشجع، وكل جوارحه تتحفز من أجل البناء الشامخ للعز التليد والمجد المفقود.

جميل والأعمال العسكرية

فلا عجب حين ترى جميل مشاركاً وجندياً متقدماً في عملية قتل تاجري الخضروات غرب خانيونس والتي نفذتها كتائب القسام بالاشتراك مع صقور فتح، وفي إطلاق الرصاص على دوريات عسكرية قرب القرارة مرتين متتاليتين، ويتقدم مع إخوانه في سيارة تحمل لوحة تسجيل صفراء، ويتمكنوا من أسر الجندي "ألون كرفاني" وتجريده من سلاحه وبطاقته الشخصية ويتم طعنه في رقبته وتركه قرب شجرة على الخط الشرقي لمدينة غزة.

وعملية جاني طال الرائعة الشهيرة يشرف جميل على التخطيط الدقيق والكامل كي تتم هذه العملية بالشكل الأفضل من حيث القوة والدقة والمهارة، ولم يكن يخفى على أبناء الدرب هذا الجهد المتواصل والحرص الدائم والعقل المفكر الذي يتمتع به جميل.

ولما قدر للشهيد القائد "ياسر النمروطي"، أن يلقى الله تبارك وتعالى كان وقع الاختيار على جميل ليكون قائداً لكتائب القسام في قطاع غزة، وكم حزن جميل لفراق رفيق الدرب النمروطي، وبقى طوال وقته لا يذكر سواه، فإخلاصه وولائه وطاعته لله جعلته يدعوا الله أن يلحقه به شهيداً، وها هو جميل ينتقل لمدينة غزة ليتمثل بالقائد الميداني الفذ، يعايش الحدث ويدير حرباً حقيقية بين شبان لا يملكون إلا عتاداً بسيطاً محدوداً وجيش مجهز بشكل كامل.

موعد مع الشهادة

كان عطاء الله عظيماً حين تقدم العمل العسكري هذه النقلة النوعية في العتاد والعدة وفي نوعية العمليات في وقت قصير تولى فيه جميل زمام العمل، وربما كان ذلك جزءاً من الكرامة لهذا الرجل الذي أعطى دمه لله ولم يسأل يوماً عن ذاته وشخصه، وبقى مرابطاً متمسكاً بطريق ذات الشوكة يحترق شوقاً للقاء الله تبارك وتعالى ويرى أن كل ما يعمل إنما هو مهر بسيط لجنة عرضها السماوات والأرض.

فكان حقاً راهباً بالليل، فارساً بالنهار، يقف الساعات الطويلة متهجداً لله تبارك وتعالى، يدعوه يتضرع إليه وأن يكتب له التوفيق والسداد، وأن يحقق على يديه الفلاح والنصر، وأن يقبله شهيداً في صفوف الخالدين.

كان الله يسمع دعاء عبده الذي ما تكاسل أو تهاون أو تراجع في طريق الحق والجهاد، ولم يكن يرغب جميل بهذه الأمانة الثقيلة والتركة العظيمة، فاعتذر عن استمراره في أداء دور القائد الميداني لمطاردي كتائب الشهيد عز الدين القسام، وعاد سريعاً إلى حضنه الدافئ في خانيونس، يقود حملة جديدة من العمل العسكري القسامي.

في تاريخ (27/7/1993م) كان جميل يعد العدة لعملية عسكرية نوعية، حيث تحركت الوحدة المختارة رقم (7) التي يقودها جميل وادي، وانقسمت المجموعة قسمين واتجها إلى منطقة دير البلح من الغرب والشرق.

وقرب جدار المغتصبات حيث دوريات عسكرية تقوم بالحراسة، حدث هناك اشتباك كبير استمر أكثر من ساعة بين المجاهدين بقيادة المجاهد العملاق جميل وادي وبين جنود الدوريات الصهيونية، وباستمرار الاشتباك تقاطرت قوات الاحتلال من كل مكان وتفرق المجاهدون في أكثر من طريق للانسحاب.

وكانت السماء تتزين هذا المساء بالندى حين تقدم جميل بسيارته قرب القرارة في طريق العودة، أوقفته دورية عسكرية مفاجئة طلب منه الضابط بطاقة هويته، تناول جميل مسدسه الشخصي وفرغ في رأس الضابط ثلاث رصاصات أردته قتيلاً ولم يمهله جنود الدورية، فأصابوه بوابل من بنادقهم الرشاشة كانت جواز السفر الذي انتظره جميل بفارغ الصبر ليستقر هادئ النفس، قرير العين، فقد أدى الرسالة فأحسن وأتم الواجب المقدس ورحل مقاوماً مشتبكاً بعد رحلة من الجهاد والعطاء.

المصدر / فلسطين أون لاين