ما أوردته وسائل الإعلام مؤخرًا من إصابة عدد من الفلسطينيين قرب مدينة أريحا في الضفة المحتلة نتيجة اعتداءات ميليشيا المستوطنين الإسرائيليين، وما قام به المستوطنون من جريمة اقتطاع أشجار زيتون معمرة جنوب نابلس قبل أيام، ما هو إلا غيض من فيض، ومشهد صغير من مسلسل الاعتداءات الإسرائيلية، والمخططات الاستيطانية التي تهدف إلى فرض واقع جديد يدفع الفلسطيني إلى اليأس والهجرة من أرض فلسطين.
ففي القدس المحتلة ينفذ المستوطنون مخططات مدروسة بعناية وبحماية من جيش الاحتلال لتهويد المدينة، والاستيلاء على منازل وممتلكات الفلسطينيين، ويقومون باقتحامات يومية للمسجد الأقصى وأداء صلوات تلمودية في باحاته، في محاولات محمومة لفرض التقسيم الزماني والمكاني في المسجد الأقصى، وصولًا لهدمه وإقامة معبد يهودي مكانه، حيث ينتمي معظم أولئك المستوطنين إلى منظمات إرهابية إسرائيلية، وبحسب تقرير نشره المكتب الوطني للدفاع عن الأرض ومقاومة الاستيطان في أبريل الماضي، فإن منظمات إرهابية إسرائيلية كشبيبة التلال ومجموعات تدفيع الثمن وغيرها، تحرض على الاعتداء ضد الفلسطينيين، وتشرف على تنفيذ المخططات الاستيطانية في الضفة والقدس.
تتنوع جرائم المستوطنين ضد الفلسطينيين ما بين القتل المباشر، وإطلاق الرصاص الحي، والاعتداء بالضرب، والدعس المتعمد، وحرق البيوت والبساتين، واقتلاع الأشجار، وحرمان المزارعين الفلسطينيين من الوصول إلى مزارعهم وبساتينهم خاصة في موسم قطف الزيتون، وتدمير المركبات، وغيرها من أشكال العدوان التي تتم على عين وبصر المجتمع الدولي دون أن يحرك ساكنًا للجم تلك الميليشيات الإسرائيلية الاستيطانية.
يهدف المستوطنون من خلال جرائمهم المتواصلة على مدار عقود إلى فرض سطوتهم على الفلسطينيين، وخلق أجواء من الرعب والخوف وانعدام الأمن للمواطنين الفلسطينيين، بهدف دفعهم إلى الفرار وترك بيوتهم، ومزارعهم وبساتينهم الخضراء ليستولي عليها المستوطنون بقوة السلاح، وبغطاء قانوني توفره محاكم الاحتلال، بالاعتماد على مستندات زائفة تقوم بتوفيرها عشرات المنظمات الإسرائيلية الاستيطانية التي تنشط في مجال التوسّع الاستيطان في الضفة والقدس، وتخطط للاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي والممتلكات الفلسطينية لصالح المستوطنات الإسرائيلية والمستوطنين اليهود.
وبحسب تقرير نشرته صحيفة "إسرائيل اليوم" العبرية مطلع مارس الماضي، فإن أكثر من 150 مستوطنة وبؤرة استيطانية إسرائيلية تنتشر في الضفة المحتلة، وتضم أكثر من 491 ألف مستوطن يهودي، كما وثق المقرر الخاص لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة مايكل لينك وجود أكثر من 230 ألف مستوطن يهودي في شرقي مدينة القدس المحتلة، وقد خلُص تقرير أممي قدمه لينك إلى مجلس حقوق الإنسان في يوليو 2021 إلى أن وجود المستوطنين الإسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 يمثل جريمة حرب، وينتهك المبادئ الأساسية للقانون الإنساني الدولي، مشيرًا إلى أن "إسرائيل" تواصل تحديها للقانون الدولي، ومطالبًا بمساءلة قادة الاحتلال السياسيين والعسكريين المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي.
وقد وثقت منظمة "هيومينا" لحقوق الإنسان الدولية في تقرير نشرته في فبراير الماضي تضاعُف جرائم المستوطنين ضد المدنيين الفلسطينيين خلال عام 2021، حيث بلغت 1088 اعتداءً ضد الفلسطينيين، بزيادة بلغت 114% عن عام 2020، كما وثقت المنظمة الحقوقية بأن جرائم المستوطنين أسفرت عن مقتل 13 فلسطينيًا، منهم 14 امرأة وطفلًا، وإصابة 260 آخرين بجروح، بعضهم أصيب نتيجة الاعتداء عليه بالرصاص الحي، أما منظمة السلام الآن الإسرائيلية فقد وثقت ارتكاب المستوطنين الإسرائيليين 507 جرائم ضد الفلسطينيين خلال عام 2020، مقارنة بنحو 363 اعتداء شنه المستوطنون ضد المدنيين الفلسطينيين وممتلكاتهم في عام 2019 في الضفة والقدس.
تتبنى حكومة الاحتلال الدفاع عن جرائم المستوطنين ضد أبناء الشعب الفلسطيني، فالزيارة التي قام بها رئيس حكومة الاحتلال نفتالي بينيت في مايو الماضي لمستوطنة "إلكانا" المقامة فوق أراضي مدينة سلفيت شمال الضفة المحتلة للاحتفال بالذكرى 45 لتأسيسها تؤكد ما وثقه تقرير منظمة هيومينا بأن أكثر من 80% من جرائم المستوطنين تمت بحماية مباشرة من جيش الاحتلال الإسرائيلي، وهي إشارة واضحة إلى توفير حكومات الاحتلال المتتالية الرعاية الرسمية لجميع اعتداءات وجرائم المستوطنين التي تتم في وضح النهار ضد الفلسطينيين.
ورغم أن مجلس الأمن قد تبنى في شهر ديسمبر 2016 القرار 2334 الذي يعتبر أن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة وشرقي القدس تشكل "انتهاكا صارخا للقانون الدولي"، إلا أن حكومة الاحتلال ما زالت تواصل توسعها الاستيطاني في الضفة والقدس، حيث أقرت في مايو الماضي بناء 4427 وحدة استيطانية جديدة في الضفة المحتلة، في جهود حكومية إسرائيلية متواصلة للقضاء نهائيًا على أمل للفلسطينيين بإقامة دولة فلسطينية مستقبلية على حدود الأراضي المحتلة عام 1967م.
يدرك المجتمع الدولي جيدًا الجرائم التي يقوم بها المستوطنون ضد الفلسطينيين في الضفة والقدس، ويتضح ذلك الأمر جليًّا من خلال القرار الذي اتخذته المفوضية الأوروبية عام 2015 بوسم وتمييز منتجات المستوطنات الإسرائيلية، والذي عززته محكمة العدل الأوروبية بقرار مشابه عام 2019، وكذلك اتخاذ الحكومة النرويجية قرارًا مماثلًا مطلع شهر يونية الحالي، ومن قبلها الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، ورغم ذلك فإن المنظمات اليهودية التي توفر الدعم السياسي والمالي لتنفيذ المخططات الاستيطانية في الضفة والقدس تلقى رواجًا ودعمًا لامحدودًا في الولايات المتحدة الأمريكية ومختلف الدول الغربية.
ففي ورقة بحثية نشرها مركز الدراسات السياسية والتنموية في مايو الماضي تم إحصاء ثلاثة وستين منظمة يهودية متطرفة باتت تحدد السياسات الإسرائيلية العامة تجاه الفلسطينيين، من أمثلتها منظمات إحياء الهيكل، وحراس الهيكل، وحركة كاخ، وحركة "كاهانا حي"، وغيرها من المنظمات المتطرفة التي تنشط في الاعتداء على الفلسطينيين، ومصادرة الأراضي الفلسطينية في الضفة المحتلة وشرقي القدس، وتدعم اقتحام المسجد الأقصى، والاستيلاء على ممتلكات الفلسطينيين، ورغم ارتكابها لمجازر ضد الفلسطينيين، وتحريضها المستمر على قتل الفلسطيني، إلا أن تلك المنظمات تتمتع بدعم مادي ومعنوي من مؤسسات رسمية وأهلية وعلامات تجارية في كل من الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، وأستراليا، وبعض الدول الأوروبية، وفي شرق آسيا، ما ينافي عمليًا مزاعم الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية بدعمها لحل الدولتين، ويعتبر مشاركة غير مباشرة في قتل الفلسطيني والاستيلاء بالقوة المسلحة على ممتلكاته.
المؤلم بالنسبة لنا هو مشاركة عدد من الأنظمة العربية وفي مقدمتها النظام الإماراتي في دعم تهويد القدس، والتوسع الاستيطان اليهودي في الضفة المحتلة، ففي ذات الوقت الذي تقوم فيه الدول الغربية بوسم وتمييز منتجات المستوطنات، نجد أن دولة الإمارات العربية باتت تروج من خلال معرض "إكسبو دبي 2020" لاستيراد بضائع المستوطنات الإٍسرائيلية؛ ما دفع موقع "موندوز" الأمريكي إلى وصفها في نوفمبر الماضي بأنها تحولت إلى سوق لخمور المستوطنات الإسرائيلية، وهو أمر لا شك أنه معيب للإمارات العربية ومؤلم لكل عربي يدافع على كرامة الأمة العربية وتاريخها الناصع.
ختامًا فإن جرائم المستوطنين اليهود المستمرة ضد الفلسطينيين، ومواجهة مخططاتهم الاستيطانية في الضفة والقدس تستوجب وحدة فلسطينية داخلية، وخطة عمل وطنية لمواجهة مخططات الاحتلال، وطي صفحة أوسلو إلى الأبد، والتخلي عن التنسيق الأمني الذي يوفر حماية وأمانًا للمستوطنين في الضفة والقدس، وتفعيل المقاومة بكل أشكالها، وفي مقدمتها المقاومة الشعبية التي توافق عليها الكل الفلسطيني، وسوى ذلك فإن اعتداءات المستوطنين ستتواصل، وهي لا تفرق بين أشكال الطيف السياسي الفلسطيني، فحكومات الاحتلال المتتالية ترفض مبدأ الاعتراف بحق الفلسطيني في الاستقلال وتعمل على إجهاض مساعيه لبناء الدولة الفلسطينية على أي شبر من أرض فلسطين.