فيما لا تزال الحملة العسكرية والأمنية للاحتلال الإسرائيلي مستمرة على مدينة جنين الثائرة منذ عام ٢٠٠٠، حتى هذه اللحظة، لم يستطِع النيل من عزيمة رجال المقاومة جيل بعد جيل، ولم يستطِع الاحتلال أيضًا اختراق هذا الزخم القسامي المتنامي ليس في جنين فقط بل في كل أنحاء الضفة للتصدي للاحتلال وقطعان المستوطنين، رغم سياسة التصفيات والاعتقالات اليومية للمقاومين، فقد استفاقت جنين فجر يوم الجمعة الماضي على مجزرة جديدة قد أدت إلى استشهاد ثلاثة مقاومين ينتمون لكتائب الشهيد عز الدين القسام وسرايا القدس على يد قوة خاصة من جيش الاحتلال الإسرائيلي، إنما يدلل على أن الاحتلال يمارس سياسة التطهير العرقي والقتل المتعمد للشعب الفلسطيني، الذي يدفع الفاتورة من دمه ويقدم خيرة شبابه للدفاع عن أرضه ووطنه ومقدساته وإفشال المخطط الصهيوني في المسجد الأقصى المبارك ببناء الهيكل المزعوم على أنقاضه منذ ثورة البراق، وقد أقدم الانتداب على جريمة إعدام نكراء في مثل هذه الأيام بتاريخ ١٧/٦/١٩٣٠، بحق ثلاثة شهداء هم: عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي، الذين كانوا في مقدمة الصفوف للدفاع عن حائط البراق.
العجيب أن المجتمع الدولي بكل منظماته وهيئاته يقف متفرجًا أمام هذا الإجرام الصهيوني الذي يسفك دماء الشعب الفلسطيني دون أن يحرك ساكنا أو يخرج عن طور صمته ويقول كلمة حق في وجه هذا الاحتلال، ولو أن دولة أخرى غير دولة الاحتلال الإسرائيلي أقدمت على ارتكاب مثل هذه المجازر والفظائع لقامت الدنيا ولم تقعد، فطالما لم يجد الاحتلال من يوقفه عند حده فهو ماضٍ في طريقه بارتكاب المجازر ضد الشعب الفلسطيني على مرأى ومسمع العالم الغربي المتواطئ معه تحت ذرائع واهية كتهديد أمن (إسرائيل)، هل الصحفيون والمسعفون والأطفال والنساء العزل يهددون أمن الاحتلال؟ إن صمت المجتمع الدولي وسكوت العرب عن جرائم الاحتلال، جعله يتمادى في ارتكاب المجازر اليومية ضد الشعب الفلسطيني الأعزل.
الغرب يطبق الإنسانية وحق الشعوب في الحرية والاستقلال في أوكرانيا على سبيل المثال ولم يطبقها في فلسطين المحتلة منذ عام ١٩٤٨، فقد رأينا التأييد والإسناد والدعم العسكري والسياسي والمالي الغربي اللامحدود لأوكرانيا ووقوفه معها ضد الغزو الروسي، وفي المقابل لا نرى شيئًا بين هذا القبيل بالنسبة للقضية الفلسطينية، بل العكس من ذلك فكل المواقف الغربية تصب في صالح الاحتلال، وبذلك الغرب لا يفرق بين الضحية والجلاد، لكون الغرب يتعامل مع قضية احتلال أوكرانيا بدعمها بسخاء ويتصدى بكل جدية لروسيا بفرض عقوبات اقتصادية وأخرى سياسية ناهيك بالقرارات الصارمة والإدانات الواسعة الصادرة من مجلس الأمن الدولي والاتحاد الأوروبي وحلف "الناتو" ضد الاحتلال الروسي لأوكرانيا، أما عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية وما يرتكبه الاحتلال يوميًّا من اغتيالات ميدانية، واعتقالات بالجملة، واقتحامات، وحصار، وعدوان، واجتياحات، وتهويد، واستيطان في المدن الفلسطينية المحتلة، فلا قرارات تدينه ولا ما يحزنون.
فلماذا يكيل الغرب بمكيالين، ولمَ هذا الصمت والتخاذل الدولي على جرائم الاحتلال؟ على حين يهدد دولًا أخرى بفرض عقوبات وحصار وقد يؤدي الأمر في بعض الأحيان إلى تدخل عسكري، كما فعل في كل من العراق وأفغانستان ويوغسلافيا. فقد حان الوقت كي يتخلى الغرب عن هذا النفاق، وأن يثبت صدقه، إذا كان فعلًا معنيًّا بالأمن والاستقرار في المنطقة، فيجب أن تتعامل الدول الغربية بنفس الكفة ونفس السياسة، كما تتعامل بها مع القضية الأوكرانية يجب أن تتعامل بها مع القضية الفلسطينية، مع العلم أن وجه الاختلاف كبير ببن القضيتين من الناحية السياسية، فمعروفة أوكرانيا بانتمائها العضوي لما كان يسمى الاتحاد السوفيتي الذي كانت تتزعمه روسيا وكل الدول التي كانت منضوية فيه بما فيها أوكرانيا، كانت تحت السيادة والسيطرة الروسية، لذا يعدُّ الصراع هناك صراعًا داخليًّا في منطقة نفوذ روسية وهذا الأمر لا جدال فيه، أما فلسطين فلم تكن يوما تخضع للسيادة الصهيونية، ولا كانت في يوم من الأيام -كما يزعمون- "أرضًا بلا شعب"، فالشعب الفلسطيني على مر العصور والأزمان صاحب هذه الأرض، وإن الصهاينة قدموا من أصقاع العالم بتواطؤ بريطاني.
أما على المستوى الفلسطيني فثم أسئلة كثيرة مهمة لا بد من طرحها على النحو التالي: أولًا- أين السيادة الفلسطينية للمناطق التي حددها لها اتفاق أوسلو بما عرف بمناطق (أ وب وج)؟ ثانيًا- ما موقف السلطة من الاقتحامات الإسرائيلية المستمرة للمناطق الفلسطينية وتنفيذها الجريمة تلو الجريمة في جنين والمناطق الأخرى؟ ثالثًا- أين قوى الأمن على كثرة مسمياتها مما يحدث في مناطق الضفة؟ رابعًا- أليس ارتكاب الاحتلال لجريمة الإعدام الميداني للمقاومين الثلاثة فجرًا لم يتم إلا بتنسيق وتعاون أمني رفيع المستوى، وإلا كيف نجحت قوة إسرائيلية خاصة في تحديد المكان والزمان وأيضًا وصولهم بهذه السهولة للمقاومين وتصفيتهم بدم بارد في المركبة التي كانت تقلهم، وعودة الخاصة إلى قواعدهم بسلام؟ خامسًا- أين دور السلطة في حماية الشعب الفلسطيني من بطش الاحتلال وقطعان مستوطنيه، فهل انتهى دورها فعليًّا وأصبحت مغيبة تمامًا عما يحدث على أرضها وداخل ملعبها؟!
لقد كشفت مجزرة جنين باغتيال المقاومين الثلاثة على يد الخاصة الإسرائيلية المستور، بأن واقع الحال يقول بأن السيادة والسيطرة للاحتلال على الضفة، وأن التنسيق الأمني الجاري على قدم وساق بين الجانبين هو سيد الموقف، كيف لا وقد أصبح مستقبل السلطة مرهونًا به، رغم أعدائها بوقفه. لذا أقول: لا بد من وقفة جادة تثبت انتماءنا الحقيقي لقضيتنا، فإذا كنا نوجه الملامة والعتاب للدول الغربية والعربية لصمتها وتخاذلها عما يرتكبه الاحتلال من جرائم يومية بحق شعبنا الفلسطيني، فيجب أن توجه الملامة أولًا لأنفسنا بأنه حان الوقت لتدرك كل القيادات الفلسطينية أن هذا الانقسام لا يخدم سوى هذا الاحتلال وأن أكبر خطيئة ترتكب بحق الشعب الفلسطيني وقضيته هي استمراره. فمن العيب أننا أصبحنا منقسمين سياسيًّا وجغرافيًّا والاحتلال لا يفرق بين هذا وذاك لأنه يعد الكل الفلسطيني هدفًا له؟ بل العيب كل العيب ألَّا نكون في هذا الوقت على الأقل يدًا واحدة نساند بها شعبنا الذي يضحي بالغالي والنفيس، لقد حان الوقت لاستعادة الوحدة والانطلاق نحو مواجهة هذه التحديات الخطيرة التي يفرضها الاحتلال.