هل هو صراع ضد نظام يتسّم بالأبارتايد يمارس على الفلسطينيين، وهدفه الأعلى إقامة نظام مساواة مواطنية؟ أم هو صراع وجود في فلسطين، وقد شنّ الغزاة الصهاينة حرب وجود لإنهاء الوجود الفلسطيني في فلسطين، وما زال هذا هدفهم؟ أي هل هو صراع وجود فرضه الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني باعتبار فلسطين -كما زعموا- "أرض إسرائيل"، وأقاموا دولة قومية عليها لليهود فقط، وقد صدر قرار علني مؤخراً من الكنيست بتأكيد ذلك؟ أم هو تثبيت لنظام أبارتايد ضد الشعب الفلسطيني؟
ولهذا فالصراع منذ 1917 حتى اليوم كان صراع وجود، ولهذا أخطأ من أدرج المشروع الصهيوني في فلسطين ضمن حالة استعمارية كولونيالية فقط. وذلك بالرغم من أن الاستعمار البريطاني هو الذي حمله إلى فلسطين، وحماه ورعاه ومكّن له، بأن يفرض وجوده عام 1948، ويقتلع ثلثي الشعب الفلسطيني من أراضيهم وبيوتهم وقراهم ومدنهم، وأحلّ المستوطنين مكانهم، وأقام كيانه (الجيش والمستوطنون و"الدولة"). ثم ليتم احتلال كل فلسطين عام 1967، ويواصل عملية الاستيلاء على الأرض وإقامة المستوطنات، وترحيل (اقتلاع) من يمكن تهجيرهم، كما هو الحال بسبعة ملايين فلسطيني الآن خارج فلسطين.
فنظام الأبارتايد لم يقم في فلسطين لذاته، كما في جنوب أفريقيا مثلاً، وإنما جاءت القوانين والإجراءات التي يتشابه بعضها، جزئياً، مع نظام الأبارتايد، لتستهدف مواصلة الاقتلاع والتهجير والإحلال والتهويد. ولهذا فالحديث عن نظام أبارتايد يعدّ قراءة جانبية لمرحلة عابرة؛ هدفها حسم حرب الوجود التي يشنها الكيان الصهيوني، وليس إقامة نظام أبارتايد.
هذه هي السردية الفلسطينية، من ناحية قراءة جوهر الصراع الذي تعرض له الشعب الفلسطيني، والذي أعطى للقضية الفلسطينية سمة حركة تحرير وطني من كيان صهيوني، وسمة صراع وجود للبقاء في فلسطين، وعدم إزالتها وإزالته من الوجود، فقد فرضت طبيعة الكيان الصهيوني ذلك.
ولهذا فشلت كل المحاولات التي تضمنت حلاً للصراع باعتبار الهدف هو دولة واحدة متساوية المواطنية، قبل عام 1947 وبعده. مثلاً، من خلال مشروع "الدولة الفلسطينية العلمانية الديمقراطية" الذي طرحته فتح في 1968/1969، ووافق عليه المجلس الوطني لاحقاً. وكذلك فشلت كل الحلول التي اقترحها مفكرون وساسة ومناضلون وآخرون، بالتركيز على العنصرية والسمة الاستعمارية؛ لأن الاستعمار عموماً يحتل ويسيطر، ويقيم نظاماً استعمارياً بطاشاً نهاباً للثروات، فيُرد عليه بحركات وحروب التحرير الوطني، فيرحل، لأن الاستعمار لا يقتلع الشعب الأصلي أو يرحله ويُحلّ مكانه مهاجرين، ويجعل الصراع صراع وجود.
وفشل مشروع التقسيم لعام 1947 (المؤامرة)، والذي قام على أساس دولتين، وقد أفشله عملياً ليس الذين رفضوه، وإنما الحركة الصهيونية التي استندت إليه لتنال "شرعية" دولية لإقامة كيانها. ثم شنت حرباً، واقتلعت ثلثي الشعب الفلسطيني، وسيطرت على بيوته مفروشة، وقراه ومدنه معمورة، وأراضيه المزروعة. وقد فشل اتفاق أوسلو، وما اُسمي بحلّ الدولتين، بالرغم من تخلي م.ت.ف عن ثوابتها، والخضوع للضغوط الدولية في قراءة الصراع، وإعلان الاعتراف بالكيان الصهيوني. وهنا أيضاً انكشفت طبيعة الصراع، وسقطت كل أوهام الحلول، عدا حلّ استمرار الاقتلاع والتهجير والإحلال والتهويد، والذي يسعى ليفرض نفسه كل يوم.
ولهذا عبثاً تأتي المحاولات التي تحصر السردية الفلسطينية وطبيعة الصراع بموضوعة نظام الأبارتايد (الفصل العنصري).
على أننا اليوم إزاء تغيّر كبير في موازين القوى، عالمياً وإقليمياً، في غير مصلحة الكيان الصهيوني، من جهة، أما من جهة أخرى، فقد وصل الصراع على أرض فلسطين إلى حد إقامة قاعدة مقاومة عسكرية جبارة في قطاع غزة، خرجت منتصرة في أربع حروب، وآخرها في عام 2021، واندلعت انتفاضات القدس والمسجد الأقصى، وباب العامود والشيخ جراح، وانتفاضة شباب الـ48، وتظاهرات الضفة الغربية، تحت العنوان الكبير "حرب سيف القدس، وتوحد الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، بما في ذلك في الشتات".
ثم دخل العام 2022 بست عمليات عسكرية، هائلة المعنى والدلالات، في بئر السبع وبني براك ودوزينكوف (تل أبيب) وبيت إيل وإلعاد. ثم تصاعدت المقاومة الشعبية الباسلة في باحات المسجد الأقصى، وفي القدس في شهر رمضان المبارك- نيسان/ أبريل 2022، حيث تراجع الكيان الصهيوني عن كل ما هدّد به، من مراسيم احتفالات دينية، أو اقتحامات بمناسبة الأعياد عنده.
هذا وجاءت قفزة استثنائية أحدثها مخيم جنين ببروز السلاح إلى العلن، وفشل عدة محاولات لاقتحامه، حتى وصل العدو إلى مرحلة راح يحسب فيها ألف حساب لاستفزاز الفلسطينيين، والدخول في اشتباك عام لا يعرف عقباه إن حصل. وهذا يفسّر لماذا تراجع عن أن تذهب مسيرة الأعلام في 29 أيار/ مايو إلى المسجد الأقصى، والاعتداء على مسجد الصخرة، وصولاً إلى التهديد بهدمه، خوفاً من أن تُنفذ المقاومة في قطاع غزة تدخلاً عسكرياً إذا مسّ مسجد الصخرة. وقد خرج مثل هذا التهديد في حينه عن حزب الله، مما وحّد موقف المقاومتين في حالة الاعتداء الذي هددوا به.
في ظل هذا المناخ، عاد من جديد التقدم بأطروحة التركيز من جانب فلسطينيي الخارج على التعبئة العالمية ضد نظام الأبارتايد. وذلك من خلال مؤتمر عقد في لندن في 31 أيار/ مايو 2022. وقد استند إلى مجموعة من التقارير، التي صدرت عن منظمات دولية وصهيونية فضحت ما اعتبرته نظام أبارتايد في الكيان الصهيوني. وكان قد سبقها تقرير أهم منها صدر عن الأونيسكو عام 2017، ورفضته أمانة الأمم المتحدة تحت الضغط الأمريكي، وبانحياز مفضوح للكيان الصهيوني.
وقد برزت في المؤتمر، ومن حوله، آراء تريد من فلسطينيي الخارج أن يركزوا ضد نظام الأبارتايد، فيما كان المطلوب أن يواصل فلسطينيو الخارج ما قاموا به في مرحلة سيف القدس في 2021، في دعم نضال الداخل الفلسطيني، مما وحّد الموقف الفلسطيني في كل مناطق التواجد الفلسطيني، وذلك إلى جانب التصدي في المعركة الإعلامية ضد الصهيونية العالمية التي تدعم الكيان الصهيوني في الداخل، كمهمة رئيسة من جانبها.
من هنا ثمة فارق في شنّ النضال ضد الأبارتايد كجزء من النضال العام، لدعم فلسطينيي الخارج لمعارك الداخل كأولوية من جهة، وبين، من جهة أخرى، اعتبار البعض النضال ضد الأبارتايد مطلوباً لذاته، باعتباره التعبير عن جوهر الصراع وطبيعته (صراع ضد نظام حكم) ويصبح هو الأولوية، وذلك تحت حجة نظرية خاطئة تعتبر للداخل خصوصياته، وللخارج خصوصياته، فيصبح للشعب الفلسطيني مشروعان وطنيان، واستراتيجيتان في النضال ضد العدو، علماً أن طوال التجربة الفلسطينية الحديثة كان كل مشروع أو سياسة أو استراتيجية لها من يناصرها في الداخل والخارج، في آن واحد. فالانقسام حول اتفاق أوسلو امتد من الخارج إلى الداخل، والعكس. وبالمناسبة، حتى موضوعة الأبارتايد في الداخل كما في الخارج (مثلاً تيار مصطفى البرغوثي)، فكل ما في الداخل له امتداده في الخارج، والعكس صحيح.
فإذا بحثت عن خصوصيات مختلفة بين الداخل والخارج، فلن تجدها في الموقف من المشروع الوطني، أو الاستراتيجية المطلوبة. فليس المكان هو الذي يحدّد طبيعة الصراع واتجاه النضال والهدف.
ولهذا فالأولوية ترجع لمركز النضال مثلاً كانت الأولوية ما بين 1967-1990 من الخارج إلى الداخل (فلسطينيو دول الطوق: مصر، سوريا، العراق، الأردن، الخليج، لبنان) ما عبّرت عنه م.ت.ف في المرحلة المشار إليها، كما انتقال مركز الثقل إلى الداخل، عملياً، بعد 1987 (الانتفاضة الأولى)، أو كما حدث بعد 1993 (اتفاق أوسلو)، وصولاً إلى الانقسام الذي حدث عام 2007 بين الضفة وقطاع غزة، حدث موازٍ له في انقسام الخارج بين مؤيدي أوسلو، من جهة، ومؤيدي المقاومة والانتفاضة، من جهة أخرى.
ولهذا فالتعامل مع موضوع الأبارتايد لا بدّ له من أن يكون واحداً في الداخل والخارج بالضرورة، بما في ذلك الموقف منه، وكيفية التعامل معه، ومن ثم اعتباره جزءاً رديفاً في النضال العام، لحل صراع الوجود في فلسطين وعلى فلسطين.