خمس سيدات فلسطينيات قتلهنّ الاحتلال الإسرائيلي من بين ثلاثة وسبعين فلسطينيّا استهدفهم بالقتل منذ مطلع عام 2022 وحتى نهاية اليوم الثاني من حزيران/ يونيو الجاري، ثلاث منهنّ كنّ في شهر نيسان/ إبريل، وهنّ: غادة السباتين من بيت لحم، ومها الزعتري من الخليل، وحنان الخضور من جنين، وواحدة كانت في أيار/ مايو وهي شيرين أبو عاقلة، وأخيرا غفران وراسنة التي كانت من بين خمسة فلسطينيين قتلهم الاحتلال في يومين من حزيران/ يونيو.
لم يخلُ شهر واحد من إيقاع القتل على الفلسطينيين طوال النصف الأوّل من هذا العام، وليس ثمّة معنى لذلك إلا أنّ الاحتلال يستهدف الفلسطيني لمجرّد أنّه فلسطيني، لا اعتبار لجنسه، ولا لطبيعة عمله. فالصحفيتان المغدورتان شيرين وغفران، قُتلتا في هذا السياق حصرا، كما بقية السيدات المغدورات، كما بقية الرجال الفلسطينيين.
الوجود الفلسطيني في الأرض الفلسطينية مستفزّ للاحتلال، من جهة لكونه الدليل الماديّ القائم في وجه السردية المصطنعة بالخرافة والقوّة الغاشمة، فماذا يملك الإسرائيلي إزاء ذلك وقد اكتظّت نفسه بالشكّ والقلق إلا أن يُسنِد وجوده للقوّة الغاشمة؟ ومن جهة لكونه وجودا محارِبا، لا بحمله السلاح بالضرورة، ولكن لمزاحمته الواقعة الاستعمارية على الأرض، ثمّ لأنّه في الوعي الصهيوني الاستعماري حامل محتمل للسلاح.
منذ نشرين الأول/ أكتوبر 2015 قُتل العديد من الفلسطينيين على الحواجز الإسرائيلية، بدعوى محاولتهم تنفيذ عمليات طعن، وبالرغم من أنّ عددا من هذه الدعاوى لم يكن صحيحا، فإنّها كانت تضمر وعيا بأنّ هذا الشعب محارِب، ومع كثافة العمليات التي أُطلق عليها منذ ذلك الحين "العمليات الفردية"، بات الجنديّ الإسرائيليّ معبأ بالخوف من الفلسطيني، والقوّة الغاشمة فقط ما يملكه الإسرائيلي لتسكين خوفه من الفلسطيني، ومع ذلك فهذا الخوف لا يَسكُن!
لهذه الاعتبارات، أُطلقت يد الجنديّ الإسرائيلي في دماء الفلسطينيين، وبات القتل متاحا لهم لأدنى ارتياب، أو حتى بلا ارتياب، فاعتياد القوّة الغاشمة مستندا وجوديّا، واعتيادها مسكّنا للقلق الذي يأبى السكون، وموقع حقيقة الوجود الفلسطيني في الوعي الإسرائيلي النازف بالشكّ والارتياب، يجعل إيقاع القتل على الفلسطينيين أمرا عاديّا، تتضاعف بواعثه حين انجراح الكرامة الإسرائيلية بوضع قوّتها الغاشمة على محكّ طمس الفلسطينيين، أو شلّ فعلهم، أو تغيير التاريخ، فما السبيل بعد ذلك إلا المزيد من القتل، والتعويض عن جرح الكرامة بالمزيد من الانتقام؟ وهذا الذي يجري منذ أحداث أيار/ مايو 2021، وحتى العمليات الأخيرة في هذه السنة، وتصاعد حالة المقاومة في جنين.
يحيل ذلك إلى مأساة الفلسطيني، الذي قد يجد نفسه غير قادر على دخول أرضه التي تبعد عن بيته بضعة أمتار فحسب، فقط لأنّ الإسرائيلي قرّر إدخالها في جداره العازل، أو ضمّها للفضاء الحيوي لمستوطناته أو معسكراته أو طرقه الالتفافية. هذا الفلسطيني سيجد نفسه مضطرا لقطع عشرات الكيلومترات للوصول إلى قرية مجاورة، لأنّ الاحتلال مزّق جغرافيا الفلسطينيين وأحالها إلى جغرافيات وربط بينها بأدوات الشلّ والضبط والمراقبة، وهذا الفلسطيني، حينما يأخذ طريقه إلى مدينة في شماليّ الضفّة الغربية أو جنوبيها، سيضع في اعتباره أن تطول الطريق أضعافا مضاعفة أو إرجاعه أو قتله، وهو في الأثناء سيتلقى الاتصالات من أهله اطمئنانا عليه في طريق قد لا تزيد على ثلاثين كيلومترا. أيّ خطوة غير محسوبة، أو محسوبة بإفراط، في واقع كهذا تعني أن الاحتمال يتضاعف في أن يفقد هذا الفلسطيني حياته.
زعم الاحتلال أنّ غفران كانت تنوي تنفيذ عملية طعن، ومن يعرف سيرة غفران، الصحافية الطموحة إلى عمل كانت متجهة إليه بعد انتظار طويل، ومن يعرف موقع الحادثة، يجزم بأنّ هذا الإسرائيلي وإن كان كاذبا، فإنّه في تلك اللحظة التي رأى فيها غفران قد تلبّسه الخوف والقلق والارتياب، فأطلق العنان لرصاصته، ثمّ لم يجد بعد ذلك مع غفران أداة الطعن التي كانت تطعن في وعيه قلقه الوجودي!
هكذا لا يدري الفلسطيني، ما المشية الأنسب له حين مروره على حاجز إسرائيليّ، وهو لا بدّ مارّ على حاجز إسرائيلي، ولا يدري إلى أين يصوّب بصره، وهل يطلق يديه أم يقيدهما في جيبيه؟ وإن أطلقهما هل يلصقهما بجسده أم يحررهما؟ وهل يضبط وجهه على وجهة واحدة أمامه أم يمكنه أن يلتفت كما بقية خلق الله؟ لا ضابط في الأمر كلّه، سوى مستوى القلق والشك والريبة في حسّ الإسرائيلي، وهو أمر متغيّر في نفس الإسرائيلي بين لحظة وأخرى، ومختلف من إسرائيلي لآخر، وذلك كله غَيْب عن الفلسطيني، الذي قد يدفع ثمن حذره أو ثمن لا مبالاته!
يُقتل الفلسطيني، إذن، لمجرد أنّه إنسان، كما بقية البشر لا بدّ له من المشي والانتقال، ولأنّ هذا المشي في كثير من أحواله لا بدّ أن يمرّ بحاجز إسرائيلي، فاحتمالات القتل على الحاجز حاضرة، وكذلك إذا سعى لقطف محصوله في أرضه التي سيّجها الإسرائيلي ومنعه من الوصول إليها، أو إذا استجاب لشوقه بالصلاة في المسجد الأقصى فغامر بالدخول إليه خفية قاطعا الجدر والحواجز، أو مضى في طلب رزقه في الداخل المحتلّ عام 1948، متجها إلى مكان عمل لعلّه مقام على أرض هُجّر منها جده أو أبوه! في تلك الأحوال كلّها، وأكثر منها، قد يُقتل الفلسطيني.
هل تحسبني أبالغ؟! حسنا وقد عرفت قصة كل من شيرين وغفران، فانظر إلى غادة السباتين، امرأة أربعينية شديدة ضعف البصر، أرملة معيلة لستة أطفال، قُتلت وهي في طريقها لزيارة أقارب لها! أو إلى حنان الخضور طالبة الثانوية العامة التي أصيبت وهي متجهة لأخذ درس خاصّ في مدينة جنين! وأمّا مها الزعتري فقد قتلها الاحتلال قرب المسجد الإبراهيمي زاعما محاولتها تنفيذ عملية طعن، فكيف إذا عُلِم أن المسجد محاط بالحواجز وبالوجود العسكري الإسرائيلي!
هذه هي قصة شيرين وغفران إذن. نعم، قد يتعمّد الإسرائيلي قتل صحفيّ بعينه، لكنه لا يفعل إلا بعد أن يتأكد أنه فلسطيني، فيرجع الأمر للعلّة الأولى؛ إلى كونه فلسطينيّا يملك وجودا مستفزّا للمستنِد إلى الخرافة والقوّة الغاشمة!
لا تنحصر مأساة الفلسطيني بذلك، فبعض العرب في زمن السوشال ميديا، يلجون للموضوع الفلسطيني من خرم هواجسهم المتضخّمة وحساسيّاتهم الخاصّة، فيسقطونها بكلّ ما قدروا عليه من اعتساف على سياق مختلف، ولا يخرجون بعد ذلك إلا بمزيد من الخذلان للضحية المغدورة، حيث عجزوا عن قول ما يريدون وفي الوقت نفسه نصرة الضحية بالقدر الذي تستحقّ، فيخلّفون الكثير من التشويش على الصورة الفلسطينية بانطباعات سوداء تنطبع عليها في بصيرة الكثيرين البعيدين، فيبقى الفلسطيني هذه المرّة من خلفهم ينزف عشمه المجروح بالخيبة، منشغلا بتنظيف الصورة من انطباعاتهم. فتأمّل وهو من جهة يزيّف السردية الصهيونية، ومن جهة أخرى يصحّح انطباعات عربيّة تعمّد أصحابها حرمان أنفسهم من فرصة للفهم!
هذا والمغدورات الفلسطينيات خمس، فهل اهتمّ ذلك البعض بهنّ كلّهنّ حينما استفاقوا على جدالات الهويّة الدينيّة لشيرين أبو عاقلة؟ وأبرزهم وأكثرهم صخبا إن تحدّث -فبعضهم لم يتحدّث بعد أن عاد لنومته عن فلسطين ويقظته لانشغالاته الأخرى- فكيف تحدّث عن غفران إلا من زاوية مقارنة الاهتمام بها بالاهتمام بشيرين؟! فهل هو اهتمّ بها وبأخواتها كلّهنّ بالقدر نفسه الذي انغمس فيه في تلك الجدالات وبالقدر نفسه الذي طرح فيه تلك المقارنات؟ أم أنه هو من كان ضحية "الترند" فانشغل بالاسم المشهور ولكن من زاويته الخاصّة، في حين اتهامه لغيره بوقوعهم ضحية "الترند"؟
ليس ثمّة شكّ أنّ "الترند" قد يُصطنع عمدا، إلا أنّ ذلك ليس على إطلاقه، فثمّة أسباب موضوعية لاشتهار البعض دون غيره، منها الشهرة الأصلية، وهذا من طبائع الأشياء، فالشهداء من المجاهدين في الميدان لا يشتهرون بالقدر نفسه، ويتأثّر الناس بمقتل بعضهم أكثر من غيرهم، ويحفظون أسماء بعضهم وينسون آخرين، كالشأن مع القادة بالنسبة للجنود المغمورين، وإن كان لا يعزب عن علم الله شيء، وعنده وحده جلّ وعلا الأوزان الحقيقية للخلق. لكن الأبصار المحشورة في زاوية واحدة ضيقة لا ترى إلا في حدود تلك الزاوية، ثمّ تصرّ بعد ذلك على صبغ قضية خالصة العدالة كالقضية الفلسطينية بتلك النظرة الكليلة في عشوة ظلمات الضيق، فتترك لمأساة الفلسطيني المزيد من القهر والوجع!