صرخة ألم لا يعرفها كثيرون ولا يتحسسها مسؤولون ولا يوصلها مهنيون؛ نعم وللأسف إنهن أمهات الشهداء اللواتي يرقبن لحظة الوداع وجنازة الأحياء الذين تحتجزهم قوات الاحتلال الإسرائيلي في ثلاجاتها وصقيع الجليد ومقابر الأرقام التي تعتبر الإهانة الإنسانية الأكبر للحق الطبيعي للبشر.
إنها العقوبات الجماعية التي من أبرز بنودها احتجاز جثامين الشهداء في إطار الضغط النفسي على الأهالي، ليست وليدة السنوات الأخيرة، فهي منذ عقود طويلة ولكنها تكثفت بشكل مباشر وبقرار سياسي استهدف جثامين الشهداء منذ انتفاضة القدس عام ٢٠١٥.
الأمهات والآباء الذين لم يصمتوا ولم يقفوا عند حاجز المنع ولم يقولوا "حط راسك بين الروس" بل استمروا وهبوا في وجه الاحتلال؛ هناك في الخليل حيث زحف الآف المواطنين إلى الحاجز العسكري المقام في باب الزاوية واعتصموا وكثفوا نشاطهم إلى أن أرغموا الاحتلال على إعادة أغلب جثامين الشهداء إلى أهاليهم الذين نظموا جنازات مهيبة خرجت الخليل عن بكرة أبيها فيها.
وبالتزامن كانت القدس تخوض انتفاضة أخرى مع انتفاضة الدهس والطعن والعمليات والمسيرات؛ إنها معركة استعادة الجثامين التي قادها أهالي الشهداء هناك وأرغموا الاحتلال على إعادة الجثامين وإذابة الجليد في فعاليات واسعة كانت يتيمة من رسميين وفصائل وفقط قادها الأهالي.
واستمرت المعركة وعزز الأهالي ثقافة "اللا" التي امتدت إلى كل الضفة الغربية والقدس وبات مهما لدى كل عائلة الشهيد، اليوم التالي لاستشهاده نسوا دموعهم وجراحهم وباتوا في الميدان وحدهم يفكرون كيف يعاد ابنهم إلى تراب الوطن .
تحولت حياتهم إلى معركة لا داعم فيها ولا سند، لا خارجية رسمية تنقل الملف لمحكمة الجنايات الدولية ولا إلى المحافل الدبلوماسية ولا على صعيد الفصائل التي اكتفت في أقصى تعاونها بالمشاركة الرسمية وبعدد قليل.
تستمر المعركة ويتعمق الجرح أولا بقرار الاحتلال السياسي الرافض لإعادة جثامين الشهداء لذويهم وإدخالهم في مرحلة تيه بين مقابر الأرقام والثلاجات من جهة؛ ومن جهة أخرى حالة الصمت والشلل الممارسة من الخارجية الفلسطينية ووزارة العدل والصحة والجهات المعنية إلى ملف الاستشهاد واحتجاز الجثمان وصولا إلى إصدار أحكام ضد الجثامين في الثلاجات، وليس انتهاء بممارسات الاحتلال ضد أهالي الشهداء وشروطهم المقيدة لهم في حال سلم بعضا منهم، خاصة في الداخل المحتل عام ١٩٤٨ والقدس من خلال تحديد عدد المشاركين في الدفن أو الذين يسيرون في المسيرة أو بيت العزاء وغيرها من التفاصيل التي يحاولون فيها إهانة الأهالي وتعذيبهم.
في خضم ما ذكر أعلاه يبقى في الميدان أهالي الشهداء المحتجزة جثامينهم ومن حولهم بعض أهالي الشهداء عامة والمتضامنين وكاميرات صحافة لم تخترق صورتها حاجز الصمت الدولي بعد.
وترتسم بعض ملامح النهوض في الملف من خلال جهات محلية ودولية ليبدأ النشاط ثم يعود لموقعه أو ليدخل التفريز من جديد، وبعضهم يطلق وعودا وهمية على مكبرات صوت تزيد الجرح ألما والفراق حزنا والمشهد قتامة.
أمل أمهات الشهداء بعد الله في مقاومة تعيد الأبناء إلى تراب الوطن بكرامة وعز بعدما خرجوا وضحوا بدمهم لكرامة فلسطين، وحينما تنجز المقاومة عملها لا يجب أن يقف الجميع متفرجا بل علينا جميعا أن نفضح احتلالا وظلما وأن تنطلق الفعاليات والمؤتمرات والحملات القانونية والمواجهة لانتصار قلب أم يريد فقط أن يفرح ليس لعودته لمنزله بل لتراب يحتضنه.