قد تعني الاستراتيجية المركزية للاحتلال الإسرائيلي في مواجهة مقاومة الشعب الفلسطيني في الفترة الأخيرة، وتحديدا بعد عملية سيف القدس 2021، والمسماة إسرائيلياً استراتيجية التفريق بين الساحات؛ أي ساحات: القدس، الضفة، غزة، والداخل المحتل، وهي اسم آخر في ما يبدو للسياسة الاستعمارية الاستبدادية على مر العصور، والمعروفة باسم (فرق تسد) أو (أكلت يوم أكل الثور الأبيض)، ووفقاً لما جاء على لسان كبار قادة وجنرالات الاحتلال، سبعة أمور منها:
الهدف والوسائل والاستنتاجات:
أولاً- هدف هذه الاستراتيجية هو الحفاظ على وتيرة منخفضة قدر الإمكان، من ردود فعل الفلسطينيين ومقاومتهم لسياسات الاحتلال الاستيطانية والإجرامية، وبالتالي التمكن من مواجهة هذه المقاومة بصورة فاعلة وبأقل التكاليف الممكنة، وهذا يعني أيضا أن الاحتلال مستعد لمواجهة كل الساحات، شريطة أن تكون مقاومة هذه الساحات محدودة وتحت السيطرة، كمظاهرات معدودة ومحدودة .
ثانيا- الوسيلة الأولى لتحقيق هذه الاستراتيجية، هي تنفيذ قرارات وسياسات الاحتلال بأقل قدر ممكن من الاستفزازات (الاحتلال يريد عنباً لا مقاتلة الناطور)، بل أحيانا يحاول للتخفيف من وطأة الآثار النفسية لإجراءاته التعسفية على الفلسطينيين، وعدم التباهي بها، الأمر الذي بدأ يفسده في الآونة الأخيرة بعض غلاة المستوطنين، وغباء بعض القادة السياسيين.
ثالثا- تسعى المؤسسة الأمنية أيضاً، لتقديم أكبر قدر ممكن من التسهيلات كالتصاريح لمن تعتبرهم مدنيين أو سكان فلسطينيين محايدين في الضفة وغزة تحديدا، أو خطط خماسية في الداخل المحتل لمنع مشاركات واسعة في الاحتجاجات، أي ما يسمى (شراء الهدوء)، وخاصة قبيل أزمات متوقعة وهذه هي الوسيلة الثانية.
رابعا- تجنب اتخاذ عقوبات جماعية ضد الفلسطينيين، كالإغلاق الكامل للمناطق لمدة طويلة، فهي تعاقب فئات دون فئات، أو ساحة دون ساحات، بل مدينة دون مدن أخرى في الضفة، وقد ظهر ذلك في ترددها في عقاب غزة، بعد اتهامها بالمسؤولية عن موجة العمليات الأخيرة من خلال التصريحات والتحريض، وهذه هي الوسيلة الثالثة والأخيرة وفق هذا البيان.
خامسا- بعد الإشارة إلى هدف ووسائل الاستراتيجية، ينبغي التطرق إلى معيار النجاح وهو التفريق بين الساحات كماً ونوعاً، والمعادلة هي كلما زاد عدد الساحات الهادئة نسبيا، كلما كانت الاستراتيجية أنجح، وكلما تركزت كل ساحة بهمومها ومشاكلها الخاصة، كلما كانت أنجح بالنسبة للاحتلال، وثالثا، كلما كانت نوعية المقاومة (أنعم أو محدودة أكثر، ويمكن استيعابها بسهولة، كلما كانت الاستراتيجية أنجح والعكس صحيح)، وعلى سبيل المثال بلغ الفشل الإسرائيلي ذروته، وبالتأكيد بلغ النجاح الفلسطيني قمته غير المسبوقة بالنسبة لتوحيد الساحات وتحطيم الاستراتيجية الإسرائيلية في معركة سيف القدس 2021، ولكنه برز بصورة محدودة جداً لدرجة (نجاح إسرائيلي معين في أحداث مسيرة الأعلام الإرهابية في 29/5/2022)، ومن المتوقع أن يستمر الارتفاع تارة والتراجع تارة أخرى في مستوى النجاح والفشل ،فالحرب سجال وليس (ضربة وانتهينا)، والأكثر أهمية أن يستمر الشعب الفلسطيني في مواجهة سياسات الاحتلال بصورة موحدة، من كلٌ حسب طاقته وقدرته ووفقا لمدى قدرة قيادة المقاومة على التحكم في مقدرات هذه الساحة أو تلك دون كلل أو ملل.
سادسا- قد تكون العقبة الرئيسية في وجه المقاومة الفلسطينية، أي (الميزة الإسرائيلية) في تحطيم هذه الاستراتيجية، هي القدرات الهائلة مادياً للاحتلال عسكريا واقتصاديا ودوليا، في مواجهة مقاومة فلسطينية لا تمتلك سوى قدرات محدودة نسبيا، عدا عن إيمانها وإصرارها وإرادتها الصلبة، الأمر الذي يسمح للاحتلال بالمناورة والتأثير على ردود فعل الساحات المختلفة، وإلهائها أحيانا بنفسها قدر الإمكان، ويساعده على ذلك وبالتأكيد تعاون المؤسسة الرسمية الفلسطينية معه أمنيا وسياسيا ومحاربتها لمشروع المقاومة المثمرة .
سابعا- الاستنتاج الرئيس من كل ما سبق، هو أنه من الصعب على المقاومة، تكرار نموذج التحطيم أو نموذج الوحدة والمواجهة كما ظهر بأوضح وأبهى صوره في سيف القدس 2021، وذلك بصورة يومية وفي كل رد على ممارسات الاحتلال وتحديدا ضد الأقصى والقدس، ولكن امتحانها الرئيس وفي مدى نجاحها في الاقتراب من هذا النموذج قدر الإمكان وتكراره، بل وتطويره في فرص قادمة وهامة أخرى، شريطة أن لا تطول هذه المدة الزمنية المطلوبة لتكرار النموذج ولتحقيق ذلك، وذلك حتى لا يتحول هذا النموذج لمجرد أمجاد من الماضي. وإمكانات واستعدادات المقاومة تسمح لها ذلك، وفي كل الأحوال الحفاظ على وحدة الساحات وإن بحدها الأدنى .
أما الاستنتاج الفرعي والهام فهو ضرورة ملائمة خطاب المقاومة، لهذا الفهم الاستراتيجي كطرائق واستراتيجيات العدو، وكذلك لقدرات المقاومة وطبيعة الصراع وتناقضات معركة الوعي والذاكرة.