يراقب براء (4 سنوات) بعينين حائرتين جموع المحتشدين والمشيعين الذين امتلأ منزله بهم في مخيم الدهيشة بمدينة بيت لحم بالضفة الغربية المحتلة، وتجول بين وجوههم فلم يعثر على والده، حتى ذهب يبحث عن إجابة لدى عمه أدهم: "وين أبوي يشوف الناس اللي جاية علينا؟" دون أن يدرك أن والده أيمن محيسن محمولا فوق أكتاف هؤلاء الرجال.
وقفت طفلته ميرال (5 سنوات) التي تفوقت على شقيقها في إدراك المشهد بأن والدها قد رحل، تتساقط دمعاتها مرتديةً ثوب الحزن وهي التي كانت بالأمس ترتدي ثوب الفرح وقبعة التخرج وهي تمسك شهادة رياض الأطفال تلتقط صورة مع والدها، في حين لم يستوعب إيلان (عاما واحدا) كل ما يجري، لكنه سيعرف حتمًا أن والده أُعدم برصاص قناص إسرائيلي أول من أمس.
صباح اليوم المشهود، أفاق أيمن محيسن (29 عامًا) على أصوات صراخ جنود الاحتلال في الخارج، فتح النافذة فقابله أحد الجنود بالصراخ: "ادخل البيت"، لكنه لم يسجل في حياته أنه انصاع لجنود الاحتلال، رفض طلبه وردّ: "قاعد في بيتي مش في دارك"، ليشهر الجندي السلاح نحوه فتراجع أيمن للخلف وبدأ تصوير المشهد بهاتفه.
رصاصة قناص
التفاصيل تطفو على حديث شقيقه أدهم (36 عاما) لصحيفة "فلسطين" عبر الهاتف: "خرج أخي كما باقي الأهالي بعد انسحاب الجنود، وتفاجأ أنهم جاؤوا لاعتقال ابن شقيقتنا فتقدم خطوات أخرى خلفهم خشية أن يعودوا من جديد، ليباغته قناص متخفٍّ بين خزانات مياه أحد المنازل برصاصتين واحدة اخترقت قلبه والثانية يده اليسرى، ليرتقي على الفور".
احتفل أيمن بتخرج طفلته ميرال من الروضة، فغمرته فرحة يستذكرها شقيقه "رأيته سعيدًا جدا، لم أره بهذه اللهفة من قبل".
قبلها بيوم، طلب أيمن من شقيقه أدهم ووالدهما الجلوس معه لتناول العشاء على مائدة واحدة، فأوصى والده "هيني قعدت معك على طاولة واحدة.. اذا استشهدت لا تبكي علي"، يعلق شقيقه وقد حدث ذلك بالفعل: "عندما كنا نلقي نظرة الوداع عليه، ذكرت والدي بوصية أخي وهو يجهش بالبكاء وأنه الآن أصبح والد الشهيد، فأخبرني أنه لا يستطيع حبس دموعه".
كما أخبر أيمن أمه بذات الأمر حتى أنه زاد في مزاحه معها: "خلص نويت الشهادة فش مجال" لكن أمه طلبت منه إغلاق المزاح، فرد: "بحكي جد، بكرا حيصير عندك عرس والناس يهنوكِ".
يترحم عليه شقيقته: "رحمه الله، كأنه أقام عرس الشهادة قبل رحيله".
الحارس الليلي
لم يكن أيمن فردًا عاديًّا، فهو "الحارس الليلي" لمخيم الدهيشة، وأسير محرر اعتقله الاحتلال عدة مرات بلغ مجموعها ثلاث سنوات، امتاز بجرأته وتصديه لاقتحامات الاحتلال بالحجارة وأحيانا بصدره.
يعود أدهم بذاكرته إلى الأعوام الماضية: "خصص جزءا كبيرا من وقته في حراسة المخيم ليلا خشية غدر الاحتلال وقواته الخاصة، وفي النهار كان يعمل حارس أمن في شركة خاصة، ودائما ما يوصيني بإيقاظه إن اقتحمت قوات الاحتلال أي منطقة في النهار، فقد كان شرسًا على المحتل".
"رأى أخي الويلات من الاحتلال، بدءًا باعتقاله والاعتداءات عليه في كل مرة يقتحمون فيها المخيم، وهو يحاول في كل مرة التصدي لهم ومنعهم من اعتقال الشبان، وقد كان أول اعتقال له 6 أشهر عندما كان يبلغ من العمر 15 عامًا، ثم توالت الاعتقالات وتنقله بين السجون، وهكذا صُنعت شخصية أيمن الثورية"، يضيف شقيقه.
في إحدى مرات التحقيق خضع أيمن 60 يوما فيما يسمى "مسلخ المسكوبية" لثنيه عن طريقه الثائر، وانضم لإضراب الأسرى التصعيدي ضد إجراءات الاحتلال لمدة 15 يومًا.
العام الماضي، تعرض أيمن لسكتة قلبية مفاجئة أثناء ذهابه إلى الدوام، إذ شعر بوخزة في قلبه وقد أخبره الطبيب حينها "أن كل شيء بيد الله" وقد كان قريبًا من الموت، لكن شاءت الأقدار ألا يموت مريضًا ليعيش عامًا آخر ويرتقي برصاص الاحتلال الغادر.