فلسطين أون لاين

الاحتلال قضى على حلم لاعب كرة القدم الناشئ

تقرير الطفل "زيد غنيم".. فرحٌ تحول إلى مأتم!

...
الطفل زيد غنيم
غزة/ يحيى اليعقوبي:

وقف أمام المرآة، وخلفه تنظر أمه لانعكاسة ابتسامته فقد كانت طلته مختلفة عن كل مرة، بعد أن وضع ربطة العنق ليكمل بروفة ارتداء بدلته الرسمية التي اشتراها تحضيرًا لعرس زفاف شقيقته بعد أسبوع، يأخذ رأيها في أناقته: "كيف يمَّا البدلة!؟"، تنظر عينا والدته من أسفل قدمه حتى أعلى رأسه وهو يستدير أمامها بشكلٍ دائري، متباهيةً به: "ما شاء الله عليك.. والله عريس".

كان الفرح يطير من ملامح وجه الطفل زيد غنيم (15 عامًا) من بلدة الخضر غرب بيت لحم بالضفة الغربية، فقد بقي أسبوع على مراسم فرح شقيقته، العائلة أصبحت في كامل استعدادها لدق طبوله وإعلاء أصوات الزغاريد، أنهت تحضيراتها من شراء الزينة التي كانت ستعلقها عند مدخل البيت في آخر يومٍ ستمضيه شقيقته في بيت عائلتها.

وزعت الدعوات على الأقارب والأحباب ليوم الزفاف الذي تقرر في 3 يونيو/ حزيران 2022، كل شيءٍ كان مجهزًا على أكمل وجه، قبل أن يخرج زيد متوجهًا إلى بيت جده في السابع والعشرين من مايو/ أيار، بعد صلاة الجمعة.

المسافة التي فصلت زيدًا عن بيت جده، هي المسافة بين الموت والحياة، تتوهج أحلامه بلعبة كرة القدم بأن يصبح مبرمجًا، تتسارع خطواته للعب مع أبناء عمه في بيت جده، لكن رصاصات استقرت بقدميه عطلت مسيرته وأسقطته أرضًا، أطلقها جنود إسرائيليون متمركزون بالمنطقة التي لم تشهد مواجهات بين الشبان وقوات الاحتلال أثناء مرور "زيد".

صوت استغاثة

ما زال "زيد" يحاول التشبث بالحياة، وهو يرى الجنود يتقدمون نحوه، فسار بقدميه المصابتين المتثاقلتين ودخل مرآب سيارات أسفل منزل سكني، وألقى بنفسه على الأرض ودوى صراخه، حتى نزلت صاحبة المنزل الذي اخترقت جدرانه رصاصات الاحتلال وصوت استغاثة الطفل.

أغلقت السيّدة باب المرآب (كراج) خشيةَ ملاحقته من جنود الاحتلال، فهي تعلم أنهم لا يتركون جريمة قبل التأكد من إتمامها وإزهاق أرواح الفلسطينيين.

أصواتُ قرع متواصل، وتهديدات، وصراخ جنود في الخارج دفع السيدة لفتح الباب وهي مرتعبة، قبل أن يزيحها الجنود جانبًا بأعقاب البنادق، ويرون الطفل ممددًا، تقابلت العينان للحظة، طفل في الرابعة عشر من عمره، يتألم، ينزفُ دمه، وثمانية جنود يحملون الحقد داخل مخازن بنادقهم، وتدوس أصابعهم على الزناد، تخترق الرصاص رقبة الطفل، وقدميه كذلك.

يخرج الجنود، وأيضًا تصرخ السيدة التي شاهدت الجريمة أمام ناظريها عن صمتها وتنادي على الجيران من أجل إسعافه، رغم معرفتها أنه استشهد فلم ترَ أي نبض عندما تحسست يده وقلبه كان مستسلمًا في سكون تام، مسحت دمعة سقطت من "زيد" قبل لحظة إعدامه، ودموعًا كثيرة لم تستطع حبسها.

تفاصيل نقلها عنها والد الشهيد على الجهة المقابلة من سماعة الهاتف لصحيفة "فلسطين" وهو يربط على جرح قلبه بكلمات صابرة وكأنه في حلم: "أعدموه بدم بارد.. حسبي الله ونعم الوكيل فيهم، طفل عمره أربعة عشر عامًا يرهب كتيبة كاملة!؟ أصابوه ومنعوا السيدة من إسعافه".

تؤكد الجريمة أن حكومة الاحتلال لم تعد ترضخ للقانون الدولي ولا لحقوق الإنسان، فـ "لم يعد هناك في فلسطين أي إنسان معصوم من القتل، اليوم ابني والله يعلم من سيقتلون غدًا".

تحضيرات لم تكتمل 

من بعيد يصل صوت زيد لوالده كالطيف: "قبل استشهاده بيومين اشترى بدلة رسمية، وكنا نحضر أنفسنا لحفل زفاف شقيقته الجمعة التالية، في آخر لحظاته أحضر لنا الغداء من خارج البيت، وصلى الجمعة وجلسنا على المائدة، وبعد ساعة ونصف الساعة استبدل ثيابه وذهب لبيت جده، ولم يكن هناك أي مواجهات، وكان بمفرده، فلماذا قتلوه!؟".

ملامح السعادة التي رُسمت على وجه زيد، تتحرك أمام والده: "كان سعيدًا بقرب فرح زفاف شقيقته، وحضر نفسه جيدا له، والآن تبدل الفرح إلى مأتم، نحتسبه عند الله شهيدًا، ونسأله تعالى أن يلهمنا الصبر والسلوان على فراقه".

"ابنك تربيه ويكبر ويترعرع أمامك، يخرج من عندك ثم يتصل بك أحدهم ليقول لكَ: "ابنك استشهد"! وكأنَّ دماءنا أصبحت رخيصة وسهلةً عند الاحتلال".. مشهد يتردد في ذهن والده.

زيد الذي يدرس في الصف التاسع الإعدادي لم يستكمل تقديم امتحاناته المدرسية، كانت حياته تعج بالطموحات التي أطلق جنود الاحتلال الرصاص عليها.

في صوت والده حسرة كامنة وهو يشيعُ أحلام طفله زيد: "كان متفوقًا في دراسته، من عشاق كرة القدم، وأحد لاعبي أكاديمية الخضر، طمح أن يصبح لاعبًا متميزًا، لكن رصاصات الغدر الإسرائيلية لم تكمل حلمه أتذكر عندما فاز في بطولة رياضية وأحضر الميدالية الذهبية وكان سعيدًا بها وكنت أراه لاعبًا كبيرًا".

إضافة لكرة القدم، كان "زيد" دائم العبث في أجهزة الحاسوب، لديه شغف في استكشافها وإصلاح المتعطلة منها ومن ثم بيعها، "هو بسن طفل لكنه كرجل في شخصيته، مطيع متى احتجته تجده، ومتى اتصلت عليه كان يأتي بسرعة، عندما رأيته بالمشفى صدمت وهو ممد في ثلاجةِ الموتى".

لا أحد في العائلة كان يعلم أن الفرح سيتبدل بين ليلة وضحاها إلى مأتم، لا أحد توقع أن يُشيّع زيد شهيدًا، بدلاً من أن تزف شقيقته، أن تتحول دموع الفرح لدموع حزن، أن تتبدل المراسم وتتغير في لمح البصر، فهذه التناقضات بين الحزن والفرح لا تحدث إلا في فلسطين.