لم تتحول مشهدية "العرض العسكري الصهيوني بالأعلام" الأحد (29 أيار/ مايو) في القدس؛ إلى "معركة سيف القدس 2"، وذلك باختصار لأنّ المقاومة من داخل قطاع غزّة وحدها القادرة على صياغة هذا النمط من المعارك والمواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي. ما لا ينبغي إنكاره أنّ موقف المقاومة المراقب دون دخول مباشر على خطّ الحدث أثار سجالاً فلسطينيّاً، بَرَزَ فيه الفريق المناقض للمقاومة من موقع سياسيّ وحزبيّ مقابل، ولكنه كان يطوي على قدر ما من الإحباط، حتّى لدى مناصريها.
بقدر ما يمكن فهم دهشة هذا الفريق من المحبين لامتناع المقاومة عن الفعل المباشر في هذا الحدث، فإنّ المدهش بالفعل، بلا كثير تفكير، هو تدخل المقاومة بفعل مباشر هذه المرّة. ليس فقط لأنّ الظرف الاجتماعي في مدينة صغيرة مكشوفة ومحاصرة لا ينبغي أن يُنهَك بحروب طاحنة متقاربة في وضع من التباين الهائل في الظروف بين جغرافيات فلسطينية منفصلة داخل الأرض المحتلة، ولكن أيضاً لأنّ المقاومة لا تخوض معاركها بتوقيت العدوّ، إلا إذا لم يجعل الاضطرار لها خياراً آخر.
المسألة مهمّة للغاية، بقدر ما هي بدهية. لا ينبغي أن تفقد المقاومة عنصر المفاجأة، وأن تندفع إلى معركة يتمتع فيها العدوّ بتحفّز عال، بعد سنة كاملة من أخذه العبر ولعق جرحه النرجسيّ المكلوم من تلك المعركة وحتى اللحظة.
لم تكن المقاومة لتضع بعيداً عن حساباتها ذلك الاحتمال الذي كشف عنه الإجماع الصهيوني، بمستوياته السياسية والأمنية والعسكرية، على إنفاذ "مسيرة الأعلام" وما سبقها من اقتحامات غير مسبوقة في شكلها ورسومها للمسجد الأقصى بما تضمّنته من صلوات علنية داخل المسجد.. هذا الإجماع يُضمر احتمالاً برغبة صهيونية في فرض توقيت المواجهة على المقاومة، التي لا يمكنها بدورها الاستهتار في احتمال من هذا النوع.
يُضاف إلى ذلك أنّ المقاومة بما هي فعل سرّي في بنيته وقدراته وجوهر قراراته، لا بدّ وأن تخفي الكثير من الحيثيات، التي لا تتعلق بقدراتها أو معلوماتها الاستخباراتية المتصلة بنوايا العدوّ فحسب، بل وحتى في نتائج معاركها، في استكشاف الثغرات والخسائر والأخطاء. فعام واحد قد لا يكون كافياً لمهمّة جسيمة من هذا النوع، تنهض بها مقاومة يطبق عليها الحصار في طبوغرافيا مكشوفة وفي وضع من التباين الفلسطيني الذاتي، وفي وضع كذلك تتسع فيه هوّة القوّة المادية لصالح العدو. ثم يبقى في حسابات المقاومة سياسة "جزّ العشب" التي يستهدفها بها العدوّ، بضرب مقدراتها في أوقات متقاربة لحرمانها مما تراكمه في هذا الوضع القريب من المستحيل.
يبقى السؤال عن السبب الذي رفع توقعات الناس إلى هذه الدرجة.
يدور النقاش حول خطابات إعلامية وسياسية لقيادات في خطّ المقاومة، لم ترفع سقف الخطاب فحسب، بل صاغت تهديدات محدّدة، وربطت الفاعلية التعبوية والمبادرة العسكرية للمقاومة بالحوادث الجزئيّة في القدس، كاقتحامات المسجد الأقصى و"مسيرة الأعلام".
لكن لم يكن التأهب انتظاراً لردّ المقاومة محصوراً في أثر تلك الخطابات، فبالإضافة إلى حالة الرفع التعبوي الهائلة التي أوجدتها "معركة سيف القدس"، اعتقدت أوساط واسعة في جمهور المقاومة أنّ المقاومة لن تفرّط بمنجزاتها السياسية والدعائية الناجمة عن تلك المعركة، والمتجلية في التفاف الجماهير حولها، وإيمانها بها.
المؤكد أن المكاسب الدعائية والسياسية للمقاومة بالغة الأهمية، لا بالمعنى الضيق، ولكن من حيث ضرورتها لتعزيز مشروع المقاومة بين الجماهير، ورفع تحفزها وروحها الكفاحية، وتقليص الحضور للمشاريع المناوئة للمقاومة بين الفلسطينيين، لكنّ هذا المكسب خادم للأصل الذي هو وجود المشروع، وقوّة بنيته، وسلامة سياساته. وفي حين نظرت أوساط من جماهير المقاومة من زاوية هذه المكاسب فحسب، كانت المقاومة تنظر من زاوية كلّيّة، فيها أصل القضية، وهو المشروع وقوته وأمنه وسلامته، ولو أفضى ذلك إلى شيء من التساؤل الذي قد يمسّ مكاسبها الإعلامية والسياسية، فهذه المكاسب سيجري تعويضها عند أول مواجهة قادمة، أو إنجاز بيّن للمقاومة.
أمّا بالنسبة للخطاب الذي رفع سقف التوقعات، وبالرغم من أنّ توجيهه ممكن، بالقول إنّه كان محاولة لردع العدوّ، أو أنّه كان مؤسّساً على قرار غيّرته المقاومة في اللحظات الأخيرة لمعلومات امتلكتها، وهو تصوّر محتمل بالنظر إلى حالة الإجماع التي لفّت جميع فصائل المقاومة في موقفها الراهن. إلا أنّ الخطابات السياسية والإعلامية دائماً ما تحتاج إلى أخذ مسافة منها، لتقييمها في ضوء القراءة السياسية العامّة المتاحة للجميع، ومن ثمّ مما يسديه جمهور المقاومة من خدمة للمقاومة نفسها، بل ولأحزابها وفصائلها، هو السماحة في النقاش العامّ، بلا كثير تحفّز ضدّ أيّ قراءة نقدية تقف على أرضية الإيمان بالمقاومة والحرص عليها، لا على أرضية الخصومة، فالتنوع على الأرضية نفسها مما يحتاجه أيّ تيار مهموم بمشروع عام، متجاوز للحسابات الضيقة، سواء في إطار التدافع العام، أم في الإطار الداخلي الذاتي.
تبقى مسألة ربط الفعل بجزئيات الصراع على أهميتها، وما يتصل بذلك من خطابات الخطوط الحمر. هذا الربط يوقع المقاومة في حرج بالغ، بين أن يدفعها للتدخل في وقت لا يناسبها، وبين تغليب حساباتها الدقيقة على معنويات الجمهور الذي ينتظرها، وذلك فضلاً عن الأصل الاستراتيجي في هذه المسألة برمّتها.
في صراع من نمط الصراع الذي نعانيه مع المشروع الصهيوني، وبعد الفهم الدقيق لطبيعة السياسات الاستعمارية الصهيونية في فلسطين، وحين التدقيق في مجمل الظرف الذي يحيط بالشعب الفلسطيني ومقاومته، يمكن إدراك أنّ فرض خطوط حُمر من المقاومة، في وضع من الموازين المختلّة لصالح العدوّ، وفي صراع طويل، لا يتمّ إلا بالمراكمة. ومن شروط المراكمة الحفاظُ على بنية المقاومة وجهوزيتها، والحفاظ على مصداقيتها، وهذا يتطلب عدم التورّط في خطاب فرض خط أحمر في قضية يصعب للعدوّ أن يتراجع عنها، كبعض مظاهر "السيادة" في القدس، لا سيما بعد أخذ مجمل العوامل التي تحيط بقضية كهذه بعين الاعتبار، من ظروف المقاومة وظروف الشعب في كل أماكنه وظروف العدوّ نفسه.
صحيح أنّ المقاومة سعت في "معركة سيف القدس" إلى كسر إرادة العدوّ التي ثابرت على حصر المقاومة في غزّة وبأهداف غزّية، فأعادت المقاومة التأكيد على كونها مقاومة فلسطينية عامّة، تمثّل امتداداً لكفاح الفلسطينيين في طول تاريخهم وعلى عرض وجودهم، وليست مقاومة غزّية ذات وظيفة سياسية محصورة بقطاع غزّة، فربطت تدخّلها في المشهد بالقدس، لكن ذلك لم يكن يتطلب تحديد أهداف جزئية داخل القدس، على أهمية تلك الأهداف ومركزيتها، وإنما كان يكفي الخطاب العامّ من حيث كون كل ما يتصل بفلسطين والصراع مع العدوّ هو من أسباب وجود هذه المقاومة ودوافع عملها وحركتها.