فلسطين أون لاين

تقرير في يومها المهني الأول.. جندي إسرائيلي يُنهي حياة الصحفية "وراسنة"

...
الخليل-غزة/ يحيى اليعقوبي:

تتسارع خطواتها محاولةً تجاوز مدخل مخيم العروب شمال مدينة الخليل بالضفة الغربية المحتلة، الساعة السابعة والنصف صباح أمس، الذي أطلَّ مختلفًا عليها، فهي على موعد مع إذاعة أول نشرة إخبارية على راديو "دريم"، ضمن أول يوم في عقد عملها الذي وقّعته بعد سنين من البحث والعمل المُتقطّع في مجال الإعلام.

لبضع خطوات تقدمت الصحفية غفران وراسنة (30 عامًا) عن جنديين إسرائيليين يقفان قرب مكعبات إسمنتية، لم تلمح نظرات حقدهما على كلّ ما هو فلسطيني، برفقة صديقتها، قبل أن تغدرها رصاصة أحد الجنديين التي اخترقت صدرها من الجهة اليسرى وخرجت من الجهة اليمنى لتسقط على الأرض، وتنزف دماؤها وتتسرّب لرمال الشارع الترابي.

لـ20 دقيقة أعاقت قوات الاحتلال وصول طواقم الإسعاف، ولم تسمح للمواطنين بإسعافها أيضًا، وبلا أيّ مشاعر كان الجندي القاتل يراقب الفتاة وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، بينما يسأله المواطنون: "ليش طخّيتها؟" سؤال أبقاه جامدًا كجمود المربع الإسمنتي بقربه.

اتصال ورد إلى شقيقها محمد، اعتقد فيه المتصل رفيقة غفران شقيقتها، لينقل له التفاصيل المتواردة: "الك أختين مصابتين على مدخل المخيم!".. خبرٌ قفز بمحمد من بيته، كان مصدومًا وهو يسمع الخبر عبر الهاتف لكنه لم يُصدّق "إيش بتحكي؟"، ليذهب إلى المكان وقد نُقلت شقيقته إلى المشفى، لكنّ أثر دمائها أكد له النبأ.

من زاويةٍ أخرى لمشهد الإعدام، يُحاول شقيقها المكلوم التماسك وهو يروي التفاصيل لصحيفة "فلسطين" نقلًا عن شهود عيان: "كانت ترافق صديقتها، وكلّ من كان هناك قالوا لنا إنهما تقدّمتا عن الجندي وباغتهما برصاصتين استقرّت إحداهما في جسد أختي بينما تطايرت شظية الرصاصة الأخرى على صديقتها".

بلا نشرة أولى

زميلتها وابنة جيرانها ريهام اللحسة، وهي مهندسة صوت ومقدمة برامج بإذاعة "دريم" كانت تنتظر قدوم غفران لتقديم موجزها الإخباري الأول، لم تمضِ دقائق حتى أطلّت لهم في غرفة الأخبار صورة شهيدة وهي ممددة على الأرض، دققت في الملامح أكثر وحسمت الأمر لزملائها في الإذاعة "هي غفران.. أنا متأكدة"، قبل أن تعلن وزارة الصحة استشهادها.

لا تزال علامات الصدمة ترافق صوت ريهام وهي تروي لـ"فلسطين" عبر الهاتف قصة غفران التي لم تدم مع الإذاعة أكثر من أسبوع: "جاءت إلينا للعمل، وأجرت اختبار صوت وسجلنا لها موجزًا، واستمر تدريبها حتى اتفقت مع المدير على البدء بأول دوام رسمي أمس، وقد كان يوم انتهاء عقدها برصاصة غادرة".

تستحضر ريهام علامات الفرح الكبيرة التي رأتها على وجه غفران لحظة الموافقة على عملها رسميًّا "عدنا سويًّا إلى المخيم، وقالت لي عن مشاعرها: سعيدة كثيرًا أنني بعد خمس سنوات من التخرج وجدت فرصة عمل، ثم حدّثتني أنها ستُكمل دراسة الماجستير".

مسيرة غفران الإعلامية لم تدم طويلًا، فبينما كانت تكافح للحصول على فرصة عمل اعتقلها الاحتلال ثلاثة أشهر وأفرج عنها في إبريل/ نيسان الماضي.

طفت تفاصيل يوم الاعتقال على حديث زميلتها "يومها ذهبَت إلى المسجد الإبراهيمي، وفي أثناء قيامها بالتصوير أوقفها جندي إسرائيلي، وعندما عرّفت عن نفسها أنها صحفية زاده ذلك استفزازًا، ثمّ أرسلوا لها مجندة لتستفزّها، فعلَا صوت غفران عليها واحتدّ الكلام بينهما، وجرى اعتقالها على أثر ذلك".

في سجن "الدامون" تركت غفران تفاصيل ثلاثة أشهر في ذاكرة المُحرّرة إيمان الأعور تستحضر بعضًا منها لـ"فلسطين" قائلة: "غفران تلك الصبية اليافعة كانت معي في المعتقل، رقيقة تحاول التقرّب من الأسيرات، تعطف على المسنّات منهنّ وتعرض عليهنّ جميعًا المساعدة، كانت تُحدّثنا عن مخاطر العمل في الصحافة".

في السجن كانت غفران تحبُّ أن تأكل مما تصنعه الأسيرات من حلويات وطعام وتشكر من يساعدها أو يُقدّم لها النصيحة، وكانت تُعاني من بعض الاضطرابات في النوم والتعايُش مع السجن.

لم تكن غفران أول شهيدة على مدخل المخيم، فالعديد من الشباب أُعدموا هنا، لكنّ الاحتلال لم يترك غفران وشأنها بعد إعدامها، إذ كرّر ما فعله مع جثمان الصحفية الشهيدة شيرين أبو عاقلة، حيث داهم موكب التشييع بعشرات قنابل الصوت التي فرّقت المشيّعين، واعتدى جنوده بالضرب عليهم، ليؤكد أنّ الصحفيين الفلسطينيين باتوا هدفًا له في حياتهم وبعد إعدامهم، تلك الحقيقة التي كانت غفران في طريقها لنقلها عبر ميكروفون إذاعتها.