قد يلفت انتباه المتابعين العرب، بل بعض الفلسطينيين، اهتمام أوساط واسعة من الفلسطينيين بانتخابات مجلس طلبة جامعة بيرزيت. وقد سبق وقيل ما يمكن قوله بهذا الشأن، من حيث امتلاك انتخابات هذه الجامعة تحديداً قدرة تمثيلية لتوجهات الجمهور الفلسطيني، خاصة وأن العوامل المؤثّرة الأهمّ في هذه الانتخابات هي العوامل السياسية بخلاف الانتخابات المحلية (البلدية) والنقابية المهنية؛ المتأثرة بالضرورة بالتربيطات العشائرية والشخصية أو المهنية والاقتصادية. لكن يبقى السؤال لماذا لا ينسحب ذلك على بقية الجامعات؟
تاريخيًّا كان الفوز الأوّل للكتلة الإسلامية (الذراع الطلابية لحركة حماس) في جامعة بيرزيت عام 1993، بالتحالف مع اليسار الفلسطيني في إطار تحالف مناهض لاتفاق أوسلو، لكنها فازت بالمجلس بعد ذلك سبع مرات من عام 1996 حتى عام 2007، في حين فازت به أثناء هذه الفترة حركة الشبيبة الطلابية (الذراع الطلابية لحركة فتح) مرتين فقط، وتعطلت الانتخابات في الأثناء ثلاث سنوات أثناء انتفاضة الأقصى.
بخلاف جامعة بيرزيت، كان حال الكتلة الإسلامية في مرحلة الثمانينيات في الجامعات الوطنية الأخرى أحسن حالاً، فجامعة النجاح الوطنية التي كانت تنافس جامعة بيرزيت من حيث المكانة في الفاعلية الوطنية في الشارع الفلسطيني؛ فازت فيها الكتلة الإسلامية ثلاث مرات في الثمانينيات، ثم ظلّت تسيطر عليها من عام 1995 حتى العام 2007 باستثناء عام 2005، أمّا جامعة الخليل فظلت الكتلة الإسلامية تسيطر عليها منذ عام 1980 وحتى العام 2007، باستثناء ثلاث مرات فازت فيها الشبيبة، وجامعة القدس (أبو ديس) ظلّت الكتلة الإسلامية تفوز فيها من عام 1984 وحتى عام 2005 الذي فازت فيه الشبيبة.
يفهم من ذلك أنّ التيار الإسلامي في فلسطين، كان ظاهر الحضور في الجامعات الوطنية، في ذروة المدّ الجماهيري لفصائل منظمة التحرير، بما في ذلك جامعة بيرزيت، التي تحالفت فيها فصائل منظمة التحرير مرتين مطلع الثمانينيات في مواجهة الكتلة الإسلامية منفردة والتي كانت نسبتها في تلك الانتخابات تتجاوز 40 في المئة، بالرغم من الطابع الليبرالي للجامعة والجذور المسيحية لتأسيسها، وهيمنة اليسار الفلسطيني عليها في مراحل سابقة، وما لاقته الكتلة في هذه الجامعة من حملات منع وإقصاء، بلغت إلى حدّ الاعتداء الجسدي ومنع عناصرها من تعليق مجلاتهم وشعاراتهم على اللوحات المخصصة لذلك، فكانوا يحملونها على ظهورهم ويطوفون بها في ساحات الجامعة. وقد اشترك حينها في عمليات الإقصاء هذه؛ القوى الطلابية المنضوية في إطار منظمة التحرير وأطراف في إدارة الجامعة.
لا يتحدث الإسلاميون كثيراً عن هذا التاريخ السحيق في الإقصاء، سواء في الجامعات أم في السجون أم في الميادين في الانتفاضة الأولى، وذلك كلّه سابق لتأسيس السلطة الفلسطينية وفتحها سجونها لهم، كما أنه سابق، بالتأكيد، لما يسمى بـ"الانقسام الفلسطيني"، وهذه من سماتهم الإيجابية الخاصة التي قد لا ينتبه لها الكثيرون ممن يفتقرون للمعرفة الكافية بتحولات الحركة الوطنية في التاريخ الفلسطيني القريب، ويستسلمون لمحض الانطباعات، في حين يبقى يُعيَّر هؤلاء الإسلاميون، من خصومهم، بتأخرهم عن الالتحاق بالحركة الوطنية، في حين أنّهم يتصدّرون مشهدها النضالي اليوم!
يتضح، والحالة هذه، تجذّر التيار الإسلامي في فلسطين، وصعوده منذ النصف الثاني من السبعينيات، ضمن سياقات وفي تجليات لا يتسع للإتيان عليها المقام الآن، إلا أنّ منافسته مطلع الثمانينيات في الجامعات كانت واضحة بحسب طبيعة الجامعة وكلّيّاتها والنمط الاجتماعي للمدن التي تحضر فيها، إلى أن اكتملت عوامل تمدّده الفكري والسياسي، من انحسار اليسار الفلسطيني (حتّى حركة فتح هيمنت الأطروحة اليسارية على أوساط واسعة منها طوال عقد السبعينيات). فكتلة اتحاد الطلبة التقدمية (الحزب الشيوعي سابقاً، الشعب لاحقاً) التي ترأس عضو منها مجلس الطلبة في بيرزيت في يوم ما، لم تحصل في هذه الانتخابات الأخيرة سوى على 76 صوتاً، ثم اكتملت عوامل تمدد الإسلاميين بالانتفاضة الأولى، ثم بتأسيس السلطة الفلسطينية.
منذ دخول السلطة الفلسطينية الضفّة الغربية، والكتلة الإسلامية تفوز بمجالس الطلبة، مع بعض الاستثناء لحركة الشبيبة الطلابية حتى نهاية عام 2007، حيث استفادت السلطة الفلسطينية من الصورة الجديدة التي اكتسبتها حماس بوصفها حركة تصارع على السلطة، لا بأن يرتبك الوعي الفلسطيني إزاء مشهدية "الانقسام" فتفوز حركة فتح بالجامعات فحسب، بل تغطت سياسات السلطة بالانقسام لإعادة هندسة الجمهور الفلسطيني، وبما طال الحركة الطلابية برمّتها، فأمكن بعد ذلك فرض الإرادة السلطوية على المجال الجامعي في الضفّة الغربيّة كلّها.
ظلّت جامعة بيرزيت استثناء، ليس فقط بسبب الممانعة النسبية لإدارتها التي حرصت على صورة الجامعة ومكانتها المحلية والدولية بوصفها جامعة ليبرالية ذات جذور مسيحية تتمتع بمساحة استقلالية خاصة، وإنما بسبب نضالات أبناء الكتلة الإسلامية، الذين واجهوا ببسالة حملات القمع والملاحقة وإجراءات الحظر العملية.
هذه النضالات التي بدأت أواخر السبعينيات، لم تتوقف في عام 2022، فبعد الرفض الفعلي وعدم الاعتراف بأيّ إطار طلابيّ لا ينتمي لمنظمة التحرير في السبعينيات والثمانينيات، فُصِل بعض طلاب الكتلة الإسلامية من الجامعة وتعرض نشاطها للتجميد في التسعينيات في ذروة صعودها، وكذلك في مطلع الألفية، تحت عناوين منع عسكرة الجامعة (أي منع النشاطات ذات الشكل العسكري، كالاستعراض باللثام ومجسمات السلاح الخشبية والكرتونية، وهي استعراضات فرجوية بهدف التجسيد التمثيلي لحالة المقاومة خارج الجامعة). وتكررت هذه المحاولات في العقد الجاري، كما كانت ثمّة محاولات لتقليص النشاط الطلابي من بعد "الانقسام".
ناضلت الكتلة الإسلامية وحدها في بعض المراحل للحفاظ على حقّها بالعمل والحضور ورفع شعاراتها، ومع كتل أخرى (لا سيما في السنوات الأخيرة) لمنع المسّ بحرّية العمل الطلابي في الجامعة.
هذا الصمود للكتلة الإسلامية أسدى خدمة عظيمة لجامعة بيرزيت، التي باتت تتفرّد بهذا الاهتمام الفلسطيني والعربي والعالمي، وللحركة الطلابية التي حافظت على ما تبقى منها من خلال الحركة الطلابية في جامعة بيرزيت، وللعمل العامّ عموماً في مواجهة حملات التجريف التي تكثفت من بعد عام 2007، وبداهة لحركة حماس، خصوصاً التي تعوّض كتلتها في جامعة بيرزيت عن تغييبها عن مجالات العمل العام خارج الجامعة.
يمكن، والحالة هذه، القول إنّ هذا الصمود الخاصّ، أي للكتلة الإسلامية في الجامعة، ثمّ التزام حركتها الأمّ بخطّها المقاوم فعلاً تجلّى في مشهديات ملحمية، كما في 2014 و2021، هو الذي يحافظ على التجذر والامتداد، فالعودة لتصدّر المشهد بدأت بقفزة كبيرة عام 2015 بعد حرب 2014، ثم صعدت القفزة لمستوى أعلى في 2022 بعد أحداث أيار/ مايو 2021 (معركة سيف القدس).
والحاصل، أنّه ومع تعطيل الانتخابات العامّة، وتجريف المجال العامّ، بما طال الجامعات وحركتها الطلابية، وغلبة المؤثّرات غير السياسية على الانتخابات المحلية والنقابية، وبحكم الطبيعة التاريخية لجامعة بيرزيت، صارت الانتخابات الطلابية لهذه الجامعة ذات قدرة تمثيلية لاتجاهات الجمهور الفلسطيني، وهو عامل قد يستفيد كذلك من توسط الجامعة الضفّة الغربية، مما يجعلها أكثر قدرة على استقطاب الطلاب من جغرافيات متعدّدة.