منذ ولاية الرئيس الأمريكي ترامب والإدارة الأمريكية تحاول لملمة أوراقها المتناثرة في العالم وتقليص حجم انتشار قواتها في أنحاء العالم ووقف "الحروب الصغيرة" المتناثرة التي تخوضها، وذلك بعد التوصيات التي أصدرتها عدد من مراكز أبحاث لصانعي القرار الأمريكي والتي كان آخرها مركز أبحاث الاقتصاد والأعمال البريطاني (CEBR) الذي أشار إلى أن الصين ستصبح أكبر اقتصاد في العالم في عام 2030م، وقد حذر عدد من الكتاب والمفكرين الأمريكيين من أن استمرار انشغال أمريكا في حروب مستمرة في الأعوام العشرين الأخيرة أدى إلى تراجع في دور الولايات المتحدة عالمياً، وفي ذات الوقت أدى الى صعود قوى أخرى منافسة منكفئة على نفسها وتعمل على تطوير نفسها اقتصادياً وتكنولوجياً أبرزها الصين، تلك الأخيرة التي أفادت التقارير المتخصصة أنها قد تتجاوز الولايات المتحدة تكنولوجيًّا وإقتصاديًّا خلال خمسة عشر عاما كما أشار مركز الأبحاث البريطاني، ويقول الكاتب الأمريكي "بول كينيدي" صاحب كتاب «صعود وسقوط القوى العظمى» إن صعود القوى العظمى مرتبط بتوفر المصادر الاقتصادية، وإن التمدد العسكري الذي لا يتناسب مع توفر هذه الإمكانيات يؤدي بالتالي إلى التقهقر، أما "ستيف والت" في كتابه الأخير "النوايا الطيبة" يقول أن أفول صدارة الولايات المتحدة وانحدار الدور الأمريكي مرده إلى السياسات التي اتبعتها الولايات المتحدة، ويرى الكاتب أن ما يسمى «الهيمنة الليبرالية» أي لعب دور المهيمن لإدارة النظام العالمي حسب الرؤية الليبرالية فشلت بشكل ذريع.
ومع بداية ولاية الرئيس بايدن عملت الإدارة الامريكية على تنفيذ توصيات مراكز الأبحاث وقراءات المفكرين التي حذرت من استمرار سياسة الولايات المتحدة في الهيمنة والامتداد المكلف اقتصادياً، ولذلك قررت الولايات المتحدة الانسحاب من أفغانستان على وجه السرعة حتى لو بدا هذا الانسحاب مذلاً للقوات الأمريكية وبدأت بتقليص عدد قواتها في عدد من أماكن تواجدها في العالم وفي نفس السياق تراجعت بعض الملفات عن جدول الاهتمام الأمريكي مثل القضية الفلسطينية التي لم تشهد أي حراك أمريكي فعّال منذ بداية عهد الرئيس بايدن.
إلا أن تلك لمحاولات من الإدارة الأمريكية للانكفاء على الذات ولملمة الأوراق لم تكد تبدأ حتى انفجرت في وجه الإدارة الامريكية أزمة عالمية كيري أجبرت الولايات المتحدة على الانخراط فيها رغم أنفها بل والخوض اليومي في تفاصيلها وهي الحرب الروسية على أوكرانيا، تلك الحرب التي اعتبرتها الولايات المتحدة محاولة روسية لإزاحتها عن مركز القيادة العالمية أحادي القطبية الذي تمثله الولايات المتحدة لصالح عالم متعدد الأقطاب بكل ما يعنيه ذلك من فقدان الإدارة الامريكية لمكانتها الدولية التي كانت تحاول الحفاظ عليها من خلال سياسة الانكفاء الذاتي التي بدأت تعتمدها إدارة بايدن.
ورغم كل الزحم الذي دخلت فيه الولايات المتحدة الأزمة الروسية الأوكرانية وما استلزم دخولها من دعم هائل لأوكرانيا عسكرياً على صعيد المعدات والخبراء وإقتصادياً للحفاظ على عدم إنهيار الدولة الأوكرانية وفرض عقوبات قاسية على روسيا، إلا أن ذلك لم يجعل الرئيس بوتين يغير موقفه من الحرب ولا تزال الحرب مستمرة بكل ما يعنيه هذا الأمر من عودة الاستنزاف للولايات المتحدة مرة أخرى وربما بشكل أكثر تأثيراً لما كان عليه الأمر سابقاً، وما زاد الأمر سوءًا انفجار أزمة جديدة مع قوة عظمى ثانية وهي الصين لتُجْبر الولايات المتحدة على الانغماس فيها مكرهة وذلك بعد التصريحات التي صدرت عن الصين باتجاه جزيرة تايوان، الأمر الذي دفع الرئيس الأمريكي لإعلان موقف حاد ولا يتناسب على لغة الدبلوماسية الأمريكية المعهودة للرئيس بايدن وذلك حينما صرح أن الولايات المتحدة ستتدخل عسكرياً ضد الصين إذا ما حاولت ضم تايون بالقوة، وقد أعقب ذلك تصريحاً خطيراً لرئيس هيئة أركان الجيوش الأمريكية بأن لدى الولايات المتحدة خطط طوارئ جاهزة للتدخل في حال استخدام الصين القوة لضم تايوان، هذا الموقف الأمريكي دفع الصين للرد بتصريح لا يقل حدة عن التصريح الأمريكي مفاده أن تايوان قضية داخلية صينية لا يسمح للولايات المتحدة التدخل فيه وإن التدخل فيه من قبلها يعني لعباً بالنار.
المشهد العالمي اليوم يشبه الى حد بعيد المشهد الدولي في خمسينات القرن الماضي الذي شهد أفول نجم الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية اللتين حاولتا التشبث قدر المستطاع بمجديهما الإمبراطوري ولكن كان الزمن قد مضى، خاصة حينما فشلت كل من بريطانيا وفرنسا في فرض إرادتيها في عدد من الأزمات الدولية التي نشأت في عدد من بلدان العالم، وخاصة أزمة السويس التي كانت القشة التي قسمت ظهر الدولتين حينما فشلت حملتيهما العسكرية ضد مصر واسترجاع قناة السويس التي أممها الرئيس عبد الناصر، ولم يتحقق الهدف الذي أعلنه وزير الخارجية البريطاني أنتوني إيدن في ذلك الوقت للحملة العسكرية بعبارة "ينبغي دفع ناصر لاستفراغ ما يحاول ابتلاعه" بما يعني دفعه للتخلي عن تأميم القناة تحت ضغط القوة العسكرية، ولكن مع فشل هذه الحملة وفشل فرنسا قبل وبعد ذلك في فرض إرادتها في أزمة الهند الصينية والجزائر واضطرارها إلى الانسحاب من هاتين المنطقتين، أدى كل ذلك إلى أفول نجم هاتين الإمبراطوريتين لتحل محلهما الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تسعى للحصول على هذه المكانة الدولية من خلال سياستها التي ساهمت في هذا الأفول.
اليوم الولايات المتحدة تمر بأزمات تضعها على المحك كقوة عظمى تحكم العالم وهي تقريباً ذات الظروف التي مرت بها كل بريطانيا وفرنسا في خمسينيات القرن الماضي، وفشلها في فرض إرادتها في هذه الأزمات يعني أفول نجمها كقوة وحيدة متحكمة في مسارات الأحداث الدولية وهذا ما ستكشفه لنا الأيام القادمة.