فلسطين أون لاين

المصور "شحادة" آخر من غادره يروي لـ"فلسطين" لحظات استهدافه

تقرير قصف برج الجوهرة.. الصواريخ لم تنَل من رسالة "حارسة الحقيقة"

...
برج الجوهرة بعد قصفه من قبل الاحتلال
غزة/ يحيى اليعقوبي:

مرَّ عام على قصف برج الجوهرة وتشويه لونه البرتقالي، ولا يزال الزميل الصحفي نور الدين صالح وزملاؤه في صحيفة "فلسطين" يعيشون وكأنهم في حلمٍ حتى اللحظة، لا يصدقون أنهم ودَّعوا مكانًا عزيزًا على قلوبهم؛ فلم يكن مقر عملهم في البرج مجرد حجارة، بل "بيتهم الثاني" الذي تركوا فيه ذكريات لم تمحها صواريخ طائرات الاحتلال الإسرائيلي، ولم تتناثر مع أوراق المقر إثر القصف المدمر وما تبعه من مرحلة إزالة.

تأسست صحيفة فلسطين في الثالث من مايو/ أيار (يوم الصحافة العالمي) قبل خمسة عشر عامًا، ليجمع مايو ذكرى التأسيس والقصف معًا، لكن "حارسة الحقيقة" خرجت كالعنقاء من بين الركام والدمار وأكملت مسيرتها وواصلت إصدار أعدادها في أثناء العدوان على غزة عام 2021 توثق معركة "سيف القدس"، فكانت مصدرًا للأخبار والقصص الإنسانية التي روتها للعالم عن جرائم الاحتلال.

العاشر من مايو 2021، كان آخر يوم أمضاه الزميل صالح وزملاؤه في مقر الصحيفة ببرج الجوهرة، حتى الساعة السادسة مساءً، قبل أن تعطي إدارة الصحيفة توجيهات للموظفين بـ"الدوام عن بُعد" ومتابعة أحداث العدوان وفق خطة طوارئ مجهزة.

يقول الصحفي صالح وهو يقف على أطلال الذاكرة: "مقر الصحيفة في برج الجوهرة هو البيت الثاني لنا، أمضيت فيه قرابة 4 سنوات بين زملاءِ العمل، لم تكن تلك السنوات عادية بل حملت في طياتها الكثير من المواقف والأحداث منها المُحزن ومنها السار نتشاركها جميعا كإخوة في عائلة واحدة".

يصف قصف البرج بـ"الفاجعة الكبرى"، ويعبر عما يعيشه من ألم لا يزال يجثم على قلبه حتى اللحظة: "الصواريخ التي قصفته كأنها اقتلعت جزءًا عزيزًا من قلبي، عشت معه وعاش معي، تلك السنوات حملت معها الكثير من الذكريات والمواقف الطيبة، أستذكر كيف كنا نتابع الأحداث الجارية في كل شبر من فلسطين الوطن".

الأمر الآخر أن مقر الصحيفة المدمر كان يتميز بطلاقة مساحته، واستقلالية مكاتب الصحفيين ومنحهم بيئة صحية للعمل "لذلك فإن قصفه واقتلاعه شكّل صدمة كبيرة، كوننا انتقلنا إلى مكان آخر مساحته لا تتجاوز نصف مساحة المقر المدمر، الأمر الذي انعكس سلبيًّا على واقع عملنا".

ورغم المصاب الجلل، نفض الصحفي صالح وبقية زملائه غبار العدوان وأكملوا الرسالة التي لم تتوقف، موصلين رسالة الشعب الفلسطيني بحقه في الحرية والحياة.

لحظات القصف

فوق سطح برج الجوهرة آنذاك، كان يواصل عاصم شحادة مصور الوكالة الوطنية للإعلام نقل رسالة مباشرة لأحد المراسلين عن مجريات العدوان على القطاع، فلم تصله وزملاءه أصداء الجلبة والخوف العارم التي اجتاحت حي البرج، لكن ما لفت انتباهه إلى وجود أمرٍ غير عادي انسحاب أربعة مصورين من السطح مع كاميراتهم.

أطلَّ من الأعلى، فرأى حركة نزوح غير طبيعية وأفراد شرطة ينصبون حواجز على الطرقات ويمنعون السيارات من المرور، حينها أدرك أن برج الجوهرة بات هدفًا لطائرات الاحتلال، فأخبر المراسل بذلك، فتغيرت الرسالة وأصبحا هم الحدث، وانتهى البث.

المصور شحادة من بين مئات الصحفيين والموظفين الذين كانوا يعملون في مؤسسات إعلامية مختلفة في برج الجوهرة، وإن كان عاش تجربةً مختلفةً عنهم، لكن جميعهم ومنذ عام يعيشون تداعيات العدوان التي لا تزال تلاحقهم.

حمل كاميرته وما يستطيع من معدات هو وزملاؤه من مؤسسته في الطابق الثامن، وغادروا المكتب إلى الشارع.

"وقفت على مسافةٍ بعيدة عن البرج، ونصبت كاميرتي لالتقاط أصعب لحظة في حياتي وهي أن تصور مكتبك قبل قصفه، لكن بعض الزملاء طلبوا من بعضهم الذهاب إلى البرج لإنقاذ بعض أجهزة البث المهمة لضمان مواصلة عملهم الإعلامي، فاتخذنا القرار بدخول البرج واعتقدنا أن طائرات الاحتلال المسيرة ستوثق هذه اللحظات، بالتالي سيتأجل القصف"، هكذا يسرد شحادة لصحيفة "فلسطين".

يضيف "عدنا إلى المقر وبدأنا بفك بقية المعدات، في تلك اللحظات ألقت طائرة حربية إسرائيلية بدون طيار صاروخًا على سطح البرج اخترق سقف مكتبنا وتطاير الغبار علينا، بدأ الخوف يجتاحنا من فكرة قصف البرج مباشرة، فنزلنا مباشرة إلى الشارع ثم ألقت الطائرة صاروخا ثانيا على مفرق رمزون (ضبيط)".

أصبح الشارع خاويًا إلا من طواقم الإسعاف والصحفيين، فجميع الجيران نزحوا من منازلهم، انتهت الطائرات الحربية بدون طيار من مهمتها، وعبرت أجواء غزة الطائرات الحربية الثقيلة وهي تجر صوتها خلفها.

لا يزال صوت صواريخها وهي تدك البرج يئز في ذاكرة شحادة: "نسينا فوق سطح البرج مصباح إنارة، سقط أول صاروخ من الطائرات الحربية على السطح واهتزت المنطقة بأكملها، لكن المصباح لم ينطفئ، فحمدنا الله إذ كانت علامة أن البرج لا يزال قائمًا، ثم سقط الصاروخ الثاني ولم ينطفئ المصباح، وسقط صاروخ ثالث ووقتها انطفأ، ثم رابع وخامس، حينها تدمر البرج بشكل بالغ، وغادرنا المنطقة".

التدمير الثاني

بعد ليلة دامية، وضع المصور "شحادة" رأسه على الوسادة وارتخى هاربًا من صورة قصف برج الجوهرة وصوت نزوح الجيران وبكاء النساء والأطفال يرافقه، لكن غفوته لم تدم طويلاً، صوتٌ من الخارج اقتحم جدران غرفة نومه وأفزعه: "بدهم يقصفوا دار جيرانا.. اطلعوا.. اطلعوا".. هذه المرة لم يكن يوثق الحدث بل عاش تجربة النزوح، وبدأ بحمل أطفال عائلته وإخراجهم من المنزل.

ابتعد الجميع عن المنطقة، ووقف من بعيد مرة أخرى يشاهد الطائرات الحربية بدون طيار تلقي الصواريخ الإرشادية قبل أن تقوم الطائرات الحربية الثقيلة بتدمير بيت جيرانهم الملاصق لمنزلهم الذي تعرض لتدمير كلي أيضا.

في الصباح وبعد تدمير منزله، ذهب شحادة لمعاينة أضرار برج الجوهرة "وقفت أسفله، نظرت إليه وهو مدمر بشكل كبير، لكنه لم يسقط كما رسالتنا الإعلامية".

بعد انتهاء العدوان، كانت زيارة شحادة الأولى إلى البرج مختلفة، إذ ألقى عليه نظرة الوداع: "لم أبكِ على منزلي كما بكيت على البرج، كنت أنظر إلى خمسة عشر عاما من الذكريات في العمل وليس إلى جدران وحجارة".