حمل الفتى أمجد كلماتٍ تركها له عمه الذي يحمل اسمه، أمجد الفايد، الشهيد المهندس في كتائب القسام قبل عشرين عامًا: "كفكف دموعك ليس في عبراتك الحرَّى ارتياحي.. هذا سبيلي، إن صدقت محبتي، فاحمل سلاحي"، أحب الفتى عمه الشهيد، فحمل اسمه وسار على دربه وصدق محبته.
كعادته لم يتأخر أمجد لحظةً، في مواجهة قوات الاحتلال المقتحمة، فهذه القوات تعلم أنه لا حجارة تلقى عليهم هناك، فرصاص المقاومين والقنابل اليدوية المحلية (أكواع) تنهال عليهم كالمطر، مؤكدين أن الطريق إلى "عش الدبابير" كما يسمي الاحتلال مخيم جنين ليس مفروشًا بالورود.
أمسك أمجد الفايد كوعًا وركب خلف صديقٍ له على دراجة نارية ووصل لمسافة الصفر من جنود الاحتلال وألقى عليهم "كوعًا"، ليقابلوه بوابل من الرصاص، فاستقرت إحدى عشرة رصاصة في جسده كان أغلبها في منطقة الصدر وواحدة في الرقبة ورصاصة في القدم، وتركوه ينزف ومنعوا إسعافه، حتى ارتقى شهيدًا.
"ختيار المقاتلين"
والده يلقبه الفلسطينيون بـ"ختيار المقاتلين" المحرر والمطارد الجريح وليد الفايد أمضى ثمانية أعوام في سجون الاحتلال، ودع نجله بكلمات صابرة أكد فيها أن الانتفاضة والمقاومة ستبقيان مستمرتين رغم مجازر الاحتلال وإعدام نجله.
يستحضر عبر الخط الهاتفي مع صحيفة "فلسطين" آخر اللحظات لنجله: "كوني أعمل في تقديم القهوة في مراسم العزاء أو تأبين الشهداء، كلفت بتقديم القهوة للمشاركين في حفل تأبين الشهيد أحمد السعدي، وفي نفس الوقت جاءتني مهمة لعزاء شهيد آخر، فطلبت منه الذهاب لتقديم القهوة في تأبين السعدي، ولأنه تجمعه صلة صداقة بالشهيد ذهب حتى انتهى الحفل".
عاد أمجد لمنزله الساعة الواحدة ليلاً، لم يغفُ إلا قليلاً حتى استُدعي للتصدي لاقتحام قوات الاحتلال، فأخبر والده أنه ذاهب للدفاع عن المخيم، تُزاحم صوته الدموع: "أخبروني بعد ساعة أنه مصاب، لكني كنت على يقين أنه شهيد".
منذ طفولته تأثر بغياب والده في سجون الاحتلال فحرم طفولته، وكان يسأل عن كل شيء حتى تكونت شخصيته الحادة، كان دائمًا يسألني عن أعمامه الشهداء، عن اجتياح جنين عام 2002، يسمع كل القصص ذهب عدة مرات للداخل المحتل وكان يعود مقهورًا وهو يرى الإسرائيليين يسلبون خيرات فلسطين في حين نحن نعيش في كانتونات وسجن كبير، عندما كنت أقول له: "بدي أبنيلك!"، كان يرفض ويقول لي: "بدي ألحق أعمامي.. بدي أستشهد".
بينما كان الكثيرون من أهالي مخيم جنين ينامون، كان أمجد وغيره من الشبان يرابطون على مدخل المخيم، الفتى الصغير أو كما يلقب بـ"الحارس الليلي" لم تغفُ عيناه عن حراسة المخيم، ولشدة نباهته كان يلقب بـ"صائد وحدة اليمام" وذلك لاكتشافه تلك الوحدات بشكل متكرر وإبلاغ المقاومين عنهم.
قبل عشرين عاما، وفي معركة أراد الاحتلال تحطيم ما سماه "وكر الدبابير" خاض عماه أمجد ومحمد الفايد معركة شرسةً مع جيش الاحتلال عام 2002، وقبل استشهادهما قتلا ثلاثة عشر جنديًا إسرائيليًا في كمين محكم، وما زال "عش الدبابير" يولد الأبطال.
في كثيرٍ من الصور التي انتشرت لأمجد، كان في معظمها يجلس بجانب الشهيد عبد الله الحصري (23 عامًا) الذي استشهد مطلع مارس/ آذار الماضي، محمد الحصري شقيق عبد الله يزيح الستار لصحيفة "فلسطين" عن تفاصيل الصداقة التي جمعت شقيقه بأمجد: "كان أخي يحب أمجد كثيرًا، دائمًا يصطحبه معه للتنزه على دراجته النارية، أو يأخذه لركوب الخيل، ويعيره بعض قطع السلاح للمشاركة بالعروض العسكرية لكون أمجد لا يملك بندقيةً".
صانع "الكوع"
امتاز أمجد بالشجاعة والجرأة الكبيرة، كان خفيفا، وسريع الحركة، جسمه النحيف جعل مقاومي المخيم يختارونه في الرصد والرباط الليلي لحراسة المخيم ومتابعة السيارات المشبوهة، كان بارعًا – كما يقول الحصري – في استخدام القنابل اليدوية محلية الصنع (كوع)، بطولة أمجد حاضرةٌ في حديثه: "أذكر عندما كان يعلن عن أي اقتحام لقوات الاحتلال للمخيم كان أمجد يرتدي حقيبة مليئة بـ "الأكواع" ويلقيها على القوات المتوغلة وكان يقوم بصناعتها بنفسه".
من كثرة القنابل التي كان يلقيها أمجد على قوات الاحتلال، لم تخزن ذاكرة الحصري إلا موقفًا حدث قبل عدة أيام: "يومها تعجبت من شجاعته، فبينما اقتربت جيبات الاحتلال العسكرية منه، لم يشعر بالخوف، وظل يحاول تركيب الفتيل لإشعال "الكوع"، حذرته من بعيد: "هي الجيب صار عندك!"، فلم يرتبك ورد علي بثقة: "خليهم يقربوا.. بدي أستشهد".
عندما استشهد عبد الله الحصري، كان أمجد أول شخص يصل إليه تزامن مع وصول سيارة الاسعاف، وقام بأخذ البندقية من يدي الشهيد وحاول إطلاق النار بها، إلا أن عطلاً فيها منع خروج الرصاص، بسبب إصابة البندقية أيضًا.
امتلك أمجد بنية جسمانية نحيفة، حتى أن ملامحه تعطيه أقل من سبعة عشر عامًا، لكن أفعاله في المخيم كانت كبيرة، ابتسم صوت الحصري وهو يعدد بطولاته: "طوال الليل كان يبقى مستيقظًا، وكأنه لا ينام، كان حارسًا ليليًا في المخيم، ويعمل بالرصد وكان من المؤثرين ".
يستحضر الحصري وصية أمجد لأحد المقاومين قبل أيام، بأنه أخبره بأمنيته بالشهادة، وأنه يتمنى أن يحمله الملثمون وهم يرفعون بنادقهم وتخرج جنازة كبيرة له، وقد نفذوا وصيته، نشر له مقطع فيديو في أثناء جنازته، ترافقه أنشودة "بلال الأحمد" وكأنه أنشده له ولمن سار على ذات الدرب: "ثم إن الصادقين لا يهابون المنون يعرفون الموت حقًا وإليه يزحفون".