تأنقت آمنة الرزي بثوبها الأسود المطرز باللون الأحمر، واتخذت من مفتاح العودة عقدًا يزين جيدها، وفيما يملأ الشجون قلبها تسرد شاهدتها على هجرتها من قريتها القبيبة شمال غرب مدينة القدس المحتلة قبل 74 عامًا، تذرف الدموع بحرقة حزنًا وحنينًا لبيتها.
لا تزال ذاكرة الرزي (92 عامًا) تحتفظ بأدق التفاصيل التي عاشتها بين بيارات وحقول حمضيات، وليالي السمر والسهر التي تجمع نسوة القرية تحت الأشجار في الصيف، والأفراح التي تمتد لأيام قبل يوم زفاف أحد شباب القرية.
تزوجت الرزي في عمر 14 عامًا ورزقت ببنت ملأت عليها حياتها، فكانت ترافقها وجدتها إلى بيارة الحمضيات، حتى تحول هدوء حياتها الأسرية إلى براكين تحت أقدام جميع أهالي القرية والقرى الفلسطينية، حينها كانت الرزي قد بلغت 18 عامًا وتحمل طفلًا آخر في بطنها.
تواردت أخبار تفيد بارتكاب العصابات الإسرائيلية مجازر بحق سكان قرية دير ياسين، حينها دب الرعب في نفوس أهل القبيبة، وخافوا أكثر على بناتهن، فما كان من والدة الحاجة الرزي إلا أن تدعوها للمبيت في بيت والدها وكلها أمل بأنها ساعات وسينتهي الأمر.
تروي الرزي تفاصيل تلك الليالي المرعبة لـ"فلسطين": "بسبب تصاعد المجازر والصواريخ، والقذائف التي كانت تستهدف بها العصابات الفلسطينيين، شعر أهالي القبيبة بالخطر فشكلوا حرسًا وطنيًا لصد الهجمات على القرية".
وتتابع: "في تلك الليلة الصيفية لم ننم بسبب أصوات القنابل وأزيز الرصاص الذي لم يهدأ، وتحول الليل إلى كتل لهب حمراء، وما إن انقشع حتى أتتني أمي باكية تخبرني بأن القرية سقطت في يد اليهود".
حملت الرزي ابنتها على كتفها، وهربت من الموت الذي كان ينتظرها برفقة زوجها ووالديها، وأخواتها الخمس، وهربوا جميهم سيرًا على الأقدام مسيرة ثلاثة أيام، حتى أرهقت وأصيبت ابنتها بإعياء شديد نتيجة العطش. في طريق الهرب إلى المجهول رأت بقرة ترعى في أحد الحقول، فتشت في محيطها حتى وجدت ماء روت به عطش ابنتها.
كان أهالي القبيبة في حالة هدوء وسلام، يعملون في بيارات الحمضيات، حتى اقتحمت العصابات اليهودية البلاد وأخذت تحصد أرواح الفلسطينيين.
تحكي الحاجة الرزي كيف كان جميع أهل القرية يحسبون حسابًا لمختارهم، فلم يكن أي شخص يستطيع أن يتزوج دون موافقة المختار، وكانت الألفة والمحبة واضحة بين تعاملات أهل القرية.
وتستذكر مدرسة القرية التي يلتحق بها أطفال القبيبة حتى الصف السادس غير أن الحظ لم يحالفها للالتحاق بها، "فأبناء عمي كانوا يدرسون فيها، أما أبي فرفض ذهابي للمدرسة، وقديمًا لم يكن هناك وعي كبير تجاه تعليم الفتاة التي كانت مهمتها تنحصر في مساعدة والديها في الحصيدة".
ولا تنسى الرزي السوق الذي كان يقام في القبيبة يوم الجمعة ويتقاطر إليه جميع أهالي القرى المجاورة كزرنوقة التي كان يقام سوقها الأسبوعي يوم السبت، ويبنا يقام سوقها الثلاثاء.
وتوضح الرزي أن أهل القرية كانوا يعتمدون في مأكلهم على الخضراوات والفواكه الموسمية التي يزرعونها كالبامية، والباذنجان، والرشتة، والشيشبرك.
"طاجن الفسيخ" هو الأكل الأشهر لقرية القبيبة التي كانت تصنعها سيدات القرية في عيد الفطر، وهو يتكون من البيض والأرز والسمك المملح والبصل، يجتمع عليه كل أفراد العائلة في صباح أول أيام العيد.
شاهد على التاريخ
قبل عدة أيام مرت الرزي بوعكة صحية أدخلت على إثرها للمستشفى، كانت تدعو الله ألَّا يأخذ أمانته قبل عودتها إلى بيتها الذي عاشت في سنوات اللجوء، أما عن بيتها في القبيبة فتقول: "كان بيتًا كبيرًا بين البيارات، كان هناك درج ينقلك إلى ثلاث غرف في الأعلى، كان فسيحًا وجنة لا توصف".
أنجبت الرزي خمس بنات، وولدان، ولها من الأحفاد وأبنائهم 130.
كان حسن يجلس مستمعًا بشوق لحكايا جدته كأنه يسمعها لأول مرة، يحب لمعة عينها وهي تحكي عن قريتها، ويتخيل معها كيف ستكون حياته لو كان معها هناك.
يقول حسن (26 عامًا): "كلما زرتها ووجدت فيها عافية أسألها عن القبيبة فتبدأ بسرد الذكريات وهي تبكي، تحدثنا عن مرحلة التهجير مرورًا بوصولهم لغزة وتطور حياتها، كيف كانوا يحمون الفدائيين، وكيف بثت فيهم جرائم العصابات اليهودية الرعب".
ويتابع: "أسمع القصص ليس لمجرد قراءة لتاريخ يرويه شخص قرأ كتابًا، بل من جدتي التي عاشت التجربة وعانت ويلاتها، فيكون أثرها في نفوسنا أعمق وأكبر".
وما يبهر حسن في جدته آمنة هي إصرارها على لبس ثوب قريتها، ومفتاح العودة لا يغادر عنقها، وحنينها إلى العودة إلى أرضها.
آمنة هي شاهد حسن الحي على التاريخ دون تزييف، فيسمع قصصها بكل ما أوتي من مشاعر وطاقة، وهذا يبث فيه المسؤولية ليثبت في الأرض أكثر، ويزداد التمسك فيها، ويحافظ على إرثها، والمقاومة بكل الوسائل والطرق، والسير بذات الطريق الذي مشوا فيه.
رغم ملامح الكبر التي بدت على آمنة، فإنها تمتلك ذاكرة فولاذية تتذكر أدق تفاصيل حياتها قبل النكبة، ويداعبها حفيدها حسن "انتي لسه شباب ياستي، يلا قومي، علشان نروح ندور على كوشانك، وطابو الدار، ودهباتك".