فلسطين أون لاين

المحرر شويكي.. الأسر غيَّب طفولته وأذاقه ألوان العذاب

...
المحرر أحمد شويكي
غزة/ هدى الدلو:

على مطحنة الأعمار قضى رحلة ارتسمت ملامحها العشرون بالآلام والأوجاع، بدأت حين كان طفلًا في الرابعة عشرة، وانتهت رحالها وقد غدا رجلًا لم تنكسر عزيمته في الرابعة والثلاثين من عمره.

المحرر أحمد شويكي من سكان مدينة القدس المحتلة، كأي طفل اختار مكانًا واسعًا بين الأحراش جبل المكبر القريبة من الحي الثوري بالمدينة ليلعب برفقة أصدقائه، ويسابق الرياح، ويطلق العنان لنفسه مراقبًا قطعة القماش التي ترفرف فوق دراجة صديقه.

لم يخطر ببالهم أن قطعة القماش التي تحمل لون الأحمر والأخضر والأبيض والأسود من شأنها أن تغيظ الجنود، وأن اللعب في قوانين الاحتلال يمكن أن يعاقب عليه، ليقعوا في كمين محكم انتهى باستشهاد رفيقه أمام عينيه، ويصاب هو بأربع رصاصات في يده اليمنى.

لتبدأ أولى فصول المعاناة باقتراب جنود الاحتلال منه، أحاطوا به وبأصدقائه من كل جانب ليس لتقديم العلاج، بل كان بعضهم يصوب فوهة بندقيته عليهم، وآخرون يقودنهم مكبلين للاعتقال.

إصابة أحمد لم تشفع له حتى بعدما وضعه بسيارة الإسعاف، فأشبع ضربًا وخزًا بالبندقية وجهاز اللاسلكي وسط صراخ الجنود "أنت مجرم" "بدنا نقتلك"، وغيرها، متجاهلين دمه النازف، هذا عدا عن كسرهم لعظام يده المصابة 3 كسور أثناء شدها بعنف.

يقول عن فترة مكوثه في المستشفى: "كنت مش بس خايف، مش قادر أستوعب، ما خلوني أنام، كل ما يغفى جفني يصحوني بصوت صراخهم بإطلاق الكلمات البذيئة، ويوجهون لي ركلات وضربات، رغم أني مقيد بسلاسل في السرير"، حاول البحث كثيرًا عن والدته التي عهدها بجواره دائمًا لكنه كان محروم منها كما النوم والطعام والشراب.

إلى غرف التحقيق

من المستشفى إلى غرف التحقيق ليعيش صنوفًا جديدة من التعذيب الجسدي والنفسي في سجن المسكوبية، "كنت طفلًا صغيرًا جاهلًا، لا أستوعب ما يدور حولي، مكثت في زنزانة لا تتجاوز المتر ونصف في مترين، تخلو من أي نافذة إلا واحدة في الباب صغيرة يتحكم بها السجان، يفتحها وقت الحاجة وسريعًا يعاود إغلاقها، وفي سقفها سلك طويل يحمل لمبة ضوء أبيض شديد السطوع مسلط على عيونه، مضت أيام طويلة دون أن تطفئ، طلب مرة من السجان إطفائها ليرتاح نظري، وبعد استجابته لعنت اللحظة التي طلبت فيها ذلك بسبب الظلام الدامس، كنت لا أرى إصبعي فعشت في رعب فوق الرعب الذي تملكني".

وبعد تحقيقات طويلة استمرت مدة 30 يومًا، يقضي يوميًا أربع ساعات على الأقل جالسًا على كرسي صغير الحجم مكبل اليدين والرجلين، وتحت وقع ضربات ولكمات، لم يستطع فرد ذراعيه.

وبعد أيام حرم منها أحمد من تناول الطعام أحضر له محقق إسرائيلي الطعام، توقع أن يكون مسمومًا، فرفض في البداية ووافق بعدها كي يموت بالطريقة التي اختاروها له، تناول منه شيئًا يسيرًا فلم يكن يقوى على الجوع أكثر من ذلك.

كان التجويع من أساليب التعذيب، ففي إحدى المرات أخرجوه من زنزانته واحتجزوه في غرفة توزيع الطعام، وكان حينها ميتًا من الجوع، وكانت أطباق الطعام تحوى على أشكالًا وألوانًا منه، فأقسم ألا يغادر المكان إلا وهي ملكه وتكون زاده لأيام، ففي كيس جمع ما بوسعه وأخفاها بداخل بطانية طلبوا منه حملها معه، "وللأسف عند تناولته كان طعمه نتنًا، حتى الدجاج الذي كانوا يحضروه يعتقد أن يعرض لدقائق فقط للبخار ولا تزال الدماء والريش عالقًا فيه، فلا يجذب إلا الحيوان ليعتمد في طعامه على الخبز فقط".

نضاله من داخل الأسر

بمخيلته الطفولية حاول أن يرسم تصورًا لمحاكمته، وإصدار حكمًا لا تتجاوز مدته 6 أشهر، ولكنه تفاجأ بعد مماطلة بإصدار الحكم عليه مدة 20 عامًا، ليعيش في عالم الأسر داخل السجون المركزية ويجد نفسه في خلوات مرات ومرات دون تخطيط منه أو إرادة، وبما أنه واقع مفروض فوجب عليها أن يستثمرها بالحفظ والتعليم.

واصل نضاله من داخل الأسر واستطاع الحصول على شهادة الثانوية العامة، والالتحاق بالجامعة العبرية في مجال العلوم والسياسة، وتخصص التاريخ من جامعة القدس المفتوحة.

بعد اعتقال أحمد بفترة بسيطة خاض أول تجربة في الإضراب الجماعي للمطالبة بحقوقه والكرامة وعلى رأسها تحصيل ساعة إضافية في وقت الفورة، ومدته لم تتجاوز أربعة أيام، في اليوم الثالث منه توقع أن ينام ولن يستيقظ، "رغم أني مصاب إلا أني خضت التجربة، فكان المهم لي أن أموت وأنا نائم".

في أول زيارة لأهله بعد شهر ونصف من الاعتقال، لم يسمع صوت الكلمات سوى دموع منهمرة من الطرفين، ولكنه في النهاية هو من حاول إسكاتهم مكابرًا على ما يعيشه ويعانيه، ولكن فيما بعد فهم أن انهيار عائلته كان بسبب معرفتهم لحقيقة الواقع الذي ينتظره.

وما دفع أحمد لتقبل حكمه، هو أنه قبل محاكمته بأيام قليلة قابل الأسير مروان البرغوثي، وبث الطمأنينة في قلبه، مؤكدًا أن اعتقاله لن يستمر وإذا لم يخرج العام الجاري سيفرج عنه في الذي يليه.

في أول عامين من الأسر لم يشبع بطنه يومًا، غير أنه في العام الثالث قرر الخروج من حالة الكبت واستثمار الوقت في التعليم والدراسة.

لم يغِب عن ذهنه يومًا ولا حتى لدقيقة التفكير في أهله وعائلته، آلمه انعقاد مناسبات العائلة دونه، كتزويج كل أشقائه فترة أسره دون معايشته أي طقوس، عدا عن الأعياد، أما الشهر الكريم فله شجون آخر.

درات السنوات وبات أحمد يدرك أبعاد القضية وطبيعة الصراع مع المحتل ليتشكل لديه قرار بتحدي الاحتلال كونه يمثل أبناء شعبه وليس شخصه، فعمل عن طريق تهريب الأحداث التي عاشها في الأسر لشقيقته لتنسج له رواية "على بوابة مطحنة الأعمار" ليصدر للعالم ما يعيشه الأسرى في الأسر، وكيف استطاع أن يحول المحنة إلى منحة، والشدة لفرج.