عادةً ما ترصع الأوسمة على صدور جنرالات المعارك والحروب العسكرية، فتتلألأ كعقدٍ وتتوهج بزاتهم العسكرية بها، باسم عيسى الفدائي الثائر منذ طليعة الثورة الفلسطينية، وقائد لواء غزة في كتائب القسام، رحل بوسام شرف ناله من السماء ليتلألأ اسمه على صدر صفحات التاريخ وقلوب أبناء شعبه وأمته، ليخلد اسمه شهيدًا، بعد مسيرة طويلة وطريق شاق قارع فيه الاحتلال شابًا فتيًا ثائرًا حمل حب فلسطين في قلبه كزيتونة عتيقة متجذرة.
باسم عيسى (56 عامًا) المُكنى "أبو عماد" والملقب بـ "التستري" لمهارته في تفكيك وتصنيع السلاح، كان ماهرًا كذلك في تفكيك أسطورة "الجيش الذي لا يقهر".
ولد في السادس والعشرين من شباط/ فبراير عام 1965، لعائلة فلسطينية لاجئة تعود أصولها إلى قرية حمامة المُهجَّرة قضاء غزة، وهو متزوج وله ثلاثة أولاد وأربع بنات، نال درجة الدبلوم في التربية، ثم درجة البكالوريوس في إدارة الأعمال من جامعة القدس المفتوحة، ودرجة البكالوريوس في الدراسات العسكرية من الأكاديمية العسكرية في قطاع غزة، واستشهد في 12 مايو/ أيار 2021 في قصف إسرائيلي استهدف مكانا تحصن به خلال معركة "سيف القدس".
روحٌ حيَّة
بعد عام من استشهاده، لم يندمل جرح الفراق في قلب زوجته راوية القوقا "أم عماد": "أقولها وبكل صدق أن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، فأنا أتعامل مع الأولاد والمواقف والأحداث وكأن "أبا عماد" موجود فعلاً، لأن روحه تسري فينا وموجودة في البيت ولا يمر حدث أو موقف إلا وأراه في رؤية، أشعر أنه يعلم كل شيء يحدث عندنا (..) أملنا أن يجمعنا الله في الفردوس الأعلى ويفرحنا بالحياة الآخرة ليعوضنا عما عشناه في الدنيا وما تحملناه من معاناة وتعب".
"طبعًا الفراق مؤلم وصعب، ولا يمكن وصفه ولكن يربط الله على قلوبنا بالصبر، فالصبر ليست كلمة تقال، لا يعرفها إلا من يعيشها، وإن شاء الله نكون من الصابرين الذين يوفون أجورهم بغير حساب".. بكلمات صابرة محتسبة، تقص الخالة راوية القوقا "أم عماد" شريط حكايةٍ، رافقت فيها زوجها، وتحملت عذابات المطاردة والملاحقة من قبل الاحتلال والسلطة في بداية التسعينيات، وعاشت حياة التشرد مع تدمير منزلهم في الحروب الإسرائيلية العدوانية على غزة.
انضم القائد عيسى لحركة حماس فور تأسيسها مع بداية الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، وفي إثرها تعرض لأكثر من مرة اعتقال، لمدة ثمانية عشر يومًا، وإداريًا لمدة ستة أشهرٍ، وكان الاعتقال الأكبر لمدة عامين ونصف العام، وفي كثير من المرات كانت قوات الاحتلال تتنكر بزي عمال البناء حتى يتم اعتقاله.
عمل منذ تسعينيات القرن الماضي مع أبرز قادة القسام مثل يحيى عياش وعماد عقل ومحمد الضيف، وشارك مع عماد عقل وماهر زقوت في تنفيذ أول عملية قتل لجنود صهاينة من نقطة الصفر نفذتها كتائب القسام في حي الزيتون في الثاني عشر من أيلول/ سبتمبر عام 1993، عُرفت بعملية مسجد مصعب بن عمير قتل فيها ثلاثة جنود واختطف المنفذون سلاحهم.
حياة خالية من الراحة
من هنا عايشت زوجته مرحلة مختلفة من حياتهما "أصبح لا ينام بالبيت لأنه توقع اعتقاله، وقتها أنجبت ابنتي "ريحان"، وجاءت قوات الاحتلال للبيت وقاموا بتفتيش المنزل وحفر أرضية المنزل (البلاط) بحثًا عن السلاح، وأصبح مطلوبًا مطاردًا كان يظهر كل عدة شهورٍ مرة واحدة، وفي تلك الفترة كانت عملياته مع عماد عقل مستمرة، وكانت الحياة عندنا صعبة، لا نراه إلا فترة بسيطة".
شرائط الذكريات الحيَّة، تمر أمام ناظريها، وكأنها حدثت قبيل ساعات "بعد زواجنا بشهرين، انضم للقسام، وكنت أعرف الثمن الذي سأدفعه تجاه العمليات التي كان ينفذها، وانتماؤه، إما نصر أو شهادة، فكان يتوقعها في أي وقت، لكن أطال الله في عمره واستطاع تطوير التصنيع في القسام، ونال الشهادة".
بعد قدوم السلطة لغزة، أبصر "عماد" الحياة، في الفترة قدم المهندس القسامي يحيى عياش لغزة من الضفة الغربية، رفقة زوجته وأمه وابنه، تتوقف "أم عماد" عن محطةٍ كان زوجها فيها قريبًا من الرحيل شهيدًا لكن ليس برصاص الاحتلال، "كانت عائلة عياش عندنا بالبيت، والظاهر أن المعلومات تسربت للسلطة بوجودهم، وأثناء مجيء "أبي عماد" لرؤية طفله لأول مرةٍ، كان عناصر السلطة يحاصرون البيت، وأطلقوا النار عليه، وأصيب بجروحٍ خطيرة ومتوسطة مكث على إثرها بالمشفى فترةً طويلة".
محطات أسرية
لم تمنع المطاردة والأعباء التي زادت عليه بعد توليه مسؤولية التصنيع وقيادة لواء غزة دوره كأب، تزيح أم عماد الستار عن جزءٍ من شخصيته داخل المنزل فصاحب الملامح الصلبة حمل قلبًا حنونا من الداخل "كان يشاركنا في البيت، بتحضير طعام العشاء، الإفطار، يعصر الفواكه للأولاد، يساعد في تدريس بعض المواد، يحاول قدر الإمكان مساعدتي في التربية، يحثهم على صلاة الجماعة، والخوف من الله، وزرع حب الوطن في نفوس أبنائه عدم الخطأ أو استغلال اسمه ومنصبه لأنه سيكون أول من يعاقبهم، وأن تكون أعمالنا كلها خالصة لله وليس لأجل أحد".
"عندما أكون منشغلة في التدريس أو متعبة، كان يطلب من إحدى بناته، الذهاب معه للمطبخ، يساعد في تخفيف الأعباء عني، حتى عندما يراني متعبة في تجهيزات العيد والتنظيف وإعداد الكعك نهاية رمضان، كان آخر كلامه لي: "ما بدي تتعبي حالك كتير.. لما أشوفك تعبانة بزعل" لا تزال تستحضر صورته.
لحظاتٌ ومحطات جميلةٌ تركها أبو عماد لرفيقة دربه، من حطام الفقد تنزعُ أقفال الصمت عن صوتها، تخرجها من الذكريات "أجمل لحظاتنا، عندما زوّج ابننا عماد، فتولى هو تحديد موعد الفرح، وحجز الصالة وكانت فرحته كبيرة، وكانت فرحته أكبر عندما رزقنا بالحفيد الأول "باسم" والذي حمل اسم جده، يومها رفض عماد أن يؤذن أي شخص بأذن المولود، أو التحنيك (تدليك فم الرضيع بالتمر) إلا جده، وبالفعل حضر وأذن له".
اعتاد أبو عماد بحكم منصبه كقائد عسكري أمضى أكثر من ثلاثة عقود ونصف العقد في مقارعة الاحتلال ولم يغادر ميادين الجهاد والمقاومة والتصنيع والتدريب والإعداد على ارتداء بزة عسكرية، فكانت مراسم زفاف ابنه فرصة نادرة ارتدى فيها البدلة الرسمية، انتزع المشهد ابتسامة من أم عماد "كانت طلته كعريس، وبدى شابا حتى الشيخ ولحظة عقد القران أخطأ الشيخ لحظة عقد القران وبارك له وليس لابنه، كانت على سبيل المزاح للدلالة على طلته البهية يومها".
صورةٌ من علاقة باسم الجد بالحفيد تلتصق بذاكرتها "كان لباسم الطفل معزة خاصة في قلب جده، يلاعبه، يعلمه المشي، وإذا ما سمع بكاءه في الليل، كان يأخذه عنده، وينام الطفل في حضنه وكان الطفل يستوعب على جده بطريقة غريبة ثم يأتيني مبتسمًا ويقول: "شايفة بغلبش بس هم مش عارفينله".
في آخر اللحظات في حياة "التستري" كان مشغولاً ما بين العمل والطاعة والعبادة وصلاة قيام الليل التي لم يقطعها، وهو بالعادة – كما تقول زوجته – يقرأ أكثر من جزء في القيام مقتديًا بالنبي، وفي رمضان كان يقرأ أربعة أجزاء في القيام، زار المرابطين وكانت زيارة الوداع، يستيقظ باكرًا ويعود للبيت مساءً يرتاح قليلاً، ويطلب إعداد فنجان قهوة له تعينه على السهر، ورغم كل الضغوط لم يترك الاهتمام بصحته فكان يذهب للنادي.
تسترسل في سفرة الذكريات فتقفز إلى ذهنها صورة أخرى "من أجمل الذكريات، فترة الحج التي قضيناها معا، وكان يريد الذهاب لوحده، ولم يرد اصطحابي بالبداية خوفا من تعرضه للاعتقال أو الرفض، لكني رفضت وقلت له: عشت معك أيامًا صعبةً، من ملاحقة ومطاردة، وأريد الحج معك ولو على الموت، وكانت فترة ممتعة".
لم ترَ السعادة تغمر ملامح زوجها، كما غمرته بعد نهاية عدوان الاحتلال على غزة عام 2014 فبعد 51 يومًا من الحرب، عاد بنشوة النصر على لحن أنشودة "اضرب اضرب (تل أبيب)" التي طلب من أبنائه أن يصدح المنزل بها احتفالاً بالنصر، وفي الحرب التي تلتها عام 2021، عاد "باسم" منتصرًا ولكن محمولاً على الأكتاف شهيدًا.
ستبقى سيرة "باسم عيسى" تتناقلها الأجيال في تخليد أسماء أبطال فلسطين، وعلى رأي الشاعر "أيمن العتوم": "تلك قافلةُ الأحرار ماضية عبد العزيز وياسين وعياشُ .. باعوا لرب السما أرواحهم فسموا في الله ماتوا.. وفيه قبلُ قد عاشوا".