لم تكن نهاية يوم محمد عرام كبدايته حينما اصطحب بناته مشيًا نحو شاطئ بحر خان يونس جنوبي قطاع غزة هربًا من ضيق الحياة وأزقة بيوتهم المسقوفة بـ"الأسبست" في حي الأمل.
فبينما كان عائدًا إلى بيته مشيًا، قابله أحد شبان حارته ينقل إليه خبرًا مر عليه "بقولوا في شاب من غزة مستشهد في طولكرم عمره 27 عاما".
نقل الشاب الخبر دفعة واحدة وكان السؤال على هيئة إشارة لتقريب الحدث عليه "ليكون أخوك اللي مستشهد!؟".. لم تدم الحالة التي ظل عليها محمد طويلا حينما رد على الشاب ضاحكًا "لا أخويا بسبع أرواح"، لكنه حينما وصل إلى بيته لمح من بعيد عددا كبيرا من الجيران والأصدقاء يتجمعون عند بابه، دقق في المشهد أكثر فوجد أشقاءه يستندون على حائط يبكون، أعاده المشهد لحواره مع الشاب مدركًا أنَّ الخبر كان حقيقيا، حينها أدرك أن لشقيقه روحا واحدة اختطفها جيش الاحتلال الإسرائيلي برصاصه الغادر، ليتأكد الخبر الذي نزل كالصاعقة على قلبه.
محمود عرام؛ شاب لم يتجاوز عمره 27 عامًا، خرج من غزة بتحويلة علاجية عام 2019 لإجراء عملية جراحية في الداخل المحتل بعد تضرر شبكية عينه في إثر إصابة عمل تعرض لها في غزة أثرت في رؤيته.
طوال أربع سنوات من الفحوصات لم يجد الأطباء في مستشفيات الاحتلال حلا لعينيه، ليقرر محمود العمل في الداخل المحتل والعيش في مدينة أريحا، إذ تنقل فيها بين عدة مطاعم وأماكن عمل شاقة وصعبة متحاملا على نفسه ومرضه، وقد أمضى 4 سنوات مغتربًا عن عائلته يعيش وحيدًا.
مساء أول من أمس، بينما كان محمود وآلاف العمال عائدين من أعمالهم في الداخل المحتل، بعد يوم عمل شاق أمضاه في معمل للباطن، نصبت قوات الاحتلال كمينًا لهم وباغتتهم بإطلاق الرصاص عليهم، فاخترقت بعضها جسد محمود ليرتقي ابن غزة شهيدًا على تراب مدينة طولكرم، في مشهد وحدت فيه دماؤه خارطة الوطن.
جرائم مستمرة
"استشهاده جاءنا مفاجئًا، وكان الخبرُ صادمًا".. ينهش الحزن صوت شقيقه محمد بينما تستمع صحيفة "فلسطين" لبقية التفاصيل منه، وقد جمّد الخبر الحروف في حنجرة والديه اللذين لم يقويا على الحديث معنا، إلا أن شقيقه تحامل على ألمه كي يوصل قصته، ويفضح جريمة الاحتلال بحق شهيد لقمة العيش، معتبرًا ما جرى جريمة إعدام ميدانية بدمٍ بارد تضاف لسلسلة جرائم الاحتلال بحق شعبنا.
يقول شقيقه وهو يستحضر آخر اللحظات من حياة الشهيد "تحدث معنا قبل العيد بيوم، واطمأن علينا وعلى أمه، حتى أنه قبل استشهاده بساعات اتصل عليها وطلب منها أن تدعو له (..) نقل صديقه لي أنه اشتكى له ضيق الوضع وصعوبة الحياة وترك في أذنه كلماتٍ نقلها لي: بكرا بنروح على الجنة وبنرتاح"، فعاش بين وحدة وغربة ومرض وصعوبة حياة.
طوال أربع سنوات كان الهاتف وسيلةً وحيدة للتواصل، حافظ فيها محمود على حبال الود مع عائلته، فلم يتمكن من زيارتها خلال تلك المدة رغم شوقه الكبير لها "تمنى أخي العودة لغزة وفي الوقت نفسه يعلم صعوبة الوضع وغياب فرص العمل، فكان في كل مرة يرجئ القرار لعل الظروف تتغير، وأصرَّ على الزواج من غزة لحظة عودته" وهذا ما دفعه للبقاء هناك.
لم تكن الفترة التي أمضاها بعيدا عن عائلته نزهة، لم يمضِ من ذاكرة شقيقه هذا المشهد "في عمله بأحد المطاعم وفي أثناء ريه المزروعات والأشجار في ساحة المطعم، قرصته أفعى في قدمه فأدخل إلى المشفى أسبوعا وكانت حالته خطرة، لكنه تعافى وواصل العمل في معامل الباطون بعدما ترك المطعم، وقد أصبح يمضي معظم وقته بين مسير طويل يقطعه من أريحا نحو الداخل المحتل في الذهاب والعودة إضافة إلى ساعات العمل، فكانت لقمة عيشه مغمسة بالألم والمعاناة".
قبل سفره، كان يشارك في فعاليات كبرى مع أهالي قطاع غزة لإعلاء صوتهم برفض الحصار الإسرائيلي، وإحياء حق العودة.
ورغم صعوبة الحياة في أريحا، كان محمود سخيًا على عائلته، فقد كان يدرك حياة أهله الأصعب فكان يساندهم، كما يروي شقيقه.
بعد سنين الغربة التي كانت أمه فيها تحترق شوقًا لرؤيته وكان هو يتوقد نارًا لحنانها، سيعود محمولاً على الأكتاف إلى مخيم "الأمل"، ليشيع شهيد "لقمة العيش" المغمسة بدمائه، وتكتوي أمه بنار الفراق والفقد بسبب احتلال لا يرحم.