فلسطين أون لاين

تقرير صُناع "نوافذ الأقصى" يحفرون جمالًا يمتد لستة أشهر

...
أحد الحرفيين يعكف على وضع اللمسات الجمالية على نافذة للمسجد الأقصى
القدس المحتلة-غزة/ مريم الشوبكي:

حينما تتسلل أشعة الشمس عبر نوافذ مصليات المسجد الأقصى تنثر جمالًا بديعًا بين أرجائه، فهي تصبغ بألوانها الزاهية التي فُرغت، وألصقت بعناية بأنامل مقدسية أمضت أكثر من 150 ساعة في إخراج هذه اللوحة الأخّاذة.

ويعكف عدد من صانعي هذه النوافذ حاليًّا على صناعة عدد منها بدلًا من تلك التي دمرها جنود الاحتلال الإسرائيلي في أثناء اقتحام الأقصى في 14 من إبريل/ نيسان الماضي الذي وافق الثالث عشر من رمضان.

تصنع النوافذ من الجبس المعشق بالزجاج الملون، على عدة مراحل جميعها يدويًّا تمتد نحو ستة أشهر لصناعة نافذة واحدة، ومن أشهر صناعها بشير الموسوس الذي أُحيل للتقاعد بعد أن ورّث المهنة لجيل شاب يتولى المهمة حاليًّا.

تاريخ صناعة نوافذ الأقصى

وبالعودة إلى تاريخ صناعة مصليات نوافذ الأقصى، تحدثت "فلسطين" مع الموسوس ليروي لنا خفايا وأسرار هذه المهنة التي لا تزال قائمة حتى اليوم.

يُبيّن الموسوس أنّ النوافذ تسمى شبابيك الجبس المعشق بالزجاج، ويُطلق عليها في بلاد المغرب العربي الشمسيات أو القمريات، مشيرًا إلى أنها تعود إلى العهد الفاطمي فهم أول من صنعوها.

ويوضح أنّ نوافذ مصليات الأقصى دُمِّر عدد كبير منها حينما ضرب مدينةَ القدس زلزال في عام 1927م، وقام عدد من الأتراك ومن بينهم داود عابدين "الأرناؤوط" بإعادة صناعتها.

ويلفت الموسوس إلى أنه بعد الحريق الذي تعرّض له المسجد الأقصى عام 1968م دُمّر عدد منها أيضًا، وتم استدعاء داود عابدين الذي أتى بمجموعة من أصدقائه المقدسيين وعلّمهم تقنيات صناعتها ومنهم كان والده واستمروا في العمل حتى 1982م.

ويقول: "في عام 1979 تعلمتُ على يد والدي هذه المهنة، بعدما ترك والدي العمل أكملت أنا المسيرة فصِرت أصنع الشبابيك مع مجموعة أخرى تعلمنا أصولها على يد والدي".

ويذكر الموسوس أنّ الشبابيك نوعان: شباك خارجي يكون عبارة عن جبس، وزجاج أبيض شفاف يأخذ أشكالًا هندسية، ونباتية، وخطوط عربية.

في حين أنّ الشباك الداخلي فيه زخارف يُوضع فيها الزجاج الملون، وللشباك الخارجي وظيفتان: حماية الشباك الداخلي المُلوّن، وتوزيع الشمس له.

ويلفت الموسوس إلى أنّ الاحتلال الإسرائيلي دمّر في اقتحامه الأخير 27 نافذة داخلية وخارجية، والتي تحتاج إلى ثلاث سنوات لصناعة الشبابيك الداخلية، وعامين إضافيين للشبابيك الخارجية.

وتتم صناعة النافذة الواحدة من خلال صبّ الجبس داخل إطار خشبي مُجوّف (2*2سم)، وبعدما تجف يتم رسم الزخارف المُراد تنفيذها، ومن ثم تبدأ عملية تفريغ الجبس من الأمام إلى الخلف، بسماكة 1 ملم من الأمام و3 ملم من الخلف.

ويلفت الموسوس إلى أنّ حفر الجبس يكون بزاوية ميل تسمح لكلّ الأشخاص مهما تفاوت طولهم بأن يشاهدوا جمال الألوان المنعكسة على الجبس المخفي، لتكتمل بذلك آية من الجمال والرونق.

وبعد عملية الحفر يقوم الموسوس بقص الزجاج الملون كل قطعة على حدة، ويُبين الموسوس أنّ الوقت الذي تستغرقه كل نافذة في العمل مرتبط بنوع الزخرفة فيها، فمنها ما يحتوي على زخارف هندسية ونباتية، يحتاج كل متر مربع فيها إلى حوالي 140 ساعة فما فوق، في حين تستغرق نوافذ أخرى لا تحتوي على طبقات أرضية لـ120 ساعة من العمل في كل متر مربع منها.

ويعتمد الموسوس في عمله على فكرة "الشبابيك المصرية"، ويُبين أنّ الفرق بينها وبين المحلية الصنع أنّ المصرية يجري فيها تركيب قطع الزجاج بطريقة لا تحتوي على رتابة، فيكون اختلاف بين واجهة الزجاج وغيره في الشغل، أما محلي الصنع فيحتوي على نفس الرتابة من الأمام والخلف. ويوضّح الموسوس أنّ السر في العمل يكمن في اعتماده على الظلال المنعكسة من خلال الإضاءة الخلفية لحفر الجبس، ويحتاج هذا الأمر إلى حِرفية عالية وخبرة كبيرة.

وعلى مدار سنوات خلت تعمّد الاحتلال تحطيم تلك النوافذ على الدوام، ويشير إلى أنها دمّرت 8 نوافذ ما بين شبابيك خارجية وداخلية، منها نافذتان بالكامل داخلية وخارجية عند مصلى الجنائز، إضافة لنافذتين استُحدثتا لكي تفتحا بزاوية معينة لقلة التهوية في المصلى القبلي وبذلك تساعدان على مرور الهواء بين الفينة والأخرى لداخل المصلى.

لكل لون وظيفة

أما بالنسبة لموقع النوافذ، فيجيب: "في الجهة الشرقية من المسجد أختار ألوانًا قاتمة للزجاج بسبب قوة أشعة الشمس، أما في الجهة الغربية التي تغيب منها الشمس فيكون وصول الأشعة لداخل المصلى ضعيفًا لذلك أستخدم الألوان الفاتحة لتدخل أكبر قدر من الضوء".

ورغم استمتاعه الشديد بها وإبداعه الكبير فيها، فإنّ مهنة الموسوس لا تخلو من متاعب وأمراض، فالضغط الشديد على يده اليسرى أدّى لتكلُّس فيها وضغط على الأعصاب من الكوع حتى كفة يده، احتاج على إثرها لتدخُّل جراحي انتهى بعدم قدرته على فتح يده بالكامل وتحريك إصبعَي الخنصر والبنصر. 

كما أُصيب الموسوس بضغط على فقرات رقبته وآخر على ظهره بسبب وضعية الجلوس التي اعتادها جسده في أثناء الحفر، كما سبب انعكاس الضوء على الجبس آلامًا في عينه.

وإنّ صناعة النوافذ تُواجه الكثير من المعوقات، يذكر منها منع الاحتلال الإسرائيلي المواد الخام اللازمة لعملية التصنيع، إضافة إلى عرقلة العمل وتأجيله من خلال منع الفنيين الشباب الذين يقومون بعملية التصنيع من دخول الأقصى عند اشتعال الأحداث، وحدوث اقتحامات.

ويختم الموسوس حديثه: "مهنة صناعة نوافذ المصليات يُطلق عليها السهل الممتنع، إذ تحتاج إلى الكثير من الصبر وضبط الأعصاب، لذا لا يمكن لأيّ شخصٍ تعلُّمها وإتقانها فهي تحتاج إلى مهارة عالية".