براعة الخطاب وفصله بحيث يأتي كالعاصفة التي تحمل المطر والبرد والصواعق والريح المدمّرة، يعرف كيف يسدّد الخطيب سهامه إلى الأهداف التي يريد فتصل دون استهلاك زمن طويل ودونما الاستغراق في تفاصيل تضيّع السامع في متاهات لا داعي لها، ثمّ أن يكون الخطاب متعدد الرسائل ومتعدّد الجهات المستهدفة: المحليّة والإقليمية والدولية والعقل المراقب للعدوّ، فتطمّن وتحفّز وتفتح نقاشا هنا، وتضرب العمق النفسي لجبهة العدو هناكّ، وهكذا يواصل الخطاب المبدع الحمّال المتنوّع فعله تماما كما تفعل العاصفة التي تحمل الرحمة والشدّة في آن واحد.
وكان مثل المطر الذي خرج من خلال سحب الخطاب، هذا الذي حمل رقم 1111 حيث سيتحوّل عند أي حرب قادمة إلى رشقة صواريخ قوامها هذا العدد، ضربة في العمق النفسي لكيان العدو، وإشارات متعدّدة منها ما يؤكّد الرغبة الشديدة للوحدة والتلاحم الأخوي الفلسطيني الفلسطيني، هذا المطر الذي يسقي الغيث ويروي ظمأ الجمهور الفلسطيني للوحدة والتلاحم الأخوي وتجاوز كلّ الجدر الوهمية المصطنعة التي فرّقت وأذهبت ريحنا، يوظّف رمزية القائد الفلسطيني أبو عمار ورمزية استشهاده وما لذلك من تحفيز للصف الوطني الوحدوي المشتبك مع المحتلّ والمعلي من شأن خيار الشهادة والمقاومة.
وأمطر الخطاب كذلك الحضور القويّ للأقصى وأحداثه وتحميل الاحتلال مسؤولية فتح حرب دينية وأدخل فيها الأمتين العربية والإسلامية بما يعنيه الأقصى لهما، وكان من المعروف بداهة أن هناك بعدا دينيا للصراع بتوظيف الحركة الصهيوينة للدين اليهودي في احتلاله لفلسطين، وهذه المرّة أشار الخطاب إلى دفع الاحتلال للدين بشكل متغطرس وعنيف من خلال استهدافه للأقصى واعتدائه المتكرر على حرمته، وبهذا ألقى الكرة في ملعبهم وحدّد من الذي يجرّ المنطقة إلى حرب دينية، وفي ذات الوقت قبل التحدّي وأوصل رسالة قوية بكلّ ما يعنيه هذا من زخم وقوّة.
وأمطر الخطاب أيضا بتعرضه لكلّ الجبهات المفتوحة والتي قد تفتح، وهشاشة الوضع الداخلي لكيان الاحتلال، وعرّج على الضفة وقدرة العمليات الفردية على إحداث الخلخلة في وضع الكيان الأمني والسياسي. وأنّ العمليات البطولية الأخيرة في الداخل المحتل أثبتت أنّهم "أوهن من بيت العنكبوت"، وأن الاحتلال يعيش حالة من التخبط والضياع بعد العمليات الفدائية الأخيرة.
ومما أمطرته سحب الخطاب؛ الإشارة إلى كسر الحصار المضروب على غزّة من خلال تشغيل الممرّ البحري والاستفادة من محور القدس وما إلى ذلك من ارتدادات هامة على الوضع العام للمقاومة وتطوير أدائها كمّا نوعا.
وأمطر الخطاب ما يؤكد ما تُوليه المقاومة من اهتمام وعمل دائبين من أجل تحرير الأسرى وتبييض السجون من الأسرى الفلسطينيين والعرب كافة. حيث أكّد: "الساحات كلها مفتوحة، ولن تكون هناك خطوط حمراء تمنعنا من أن نقوم بواجبنا من أجل أسرانا".
وكان للمرابطين والمرابطات نصيب من هذا المطر، ولكلّ الذين تسلّقوا الجدر المحيطة بالقدس وتحدوا إجراءات الاحتلال القاسية وانتزعوا صلاتهم عنوة رغم أنف الاحتلال.
هذا غيض من فيض الخطاب الذي روى الصحاري والهضاب وسلك طريق من يملك تحويل الكلام إلى واقع وتحويل الهزيمة إلى نصر والضعف إلى التمكين والنصر بإذن الله.
والمتتبّع للمشهد السياسي الصهيوني يجد كيف وصلتهم رسائل الخطاب وكيف أثارتهم وأظهرت غيظ قلوبهم، هم لا يستوعبون ولا يتوقّعون من الخطاب العربي إلا الاستجداء ولغة الخوف والوجل، فآتاهم هذا الخطاب من حيث لم يحتسبوا، ليسدّ الأفق أمامهم، وليروا العاصفة المحمّلة بالمطر والصواعق والرعب الشديد في آن واحد.