تفتح خزانتها، تنظر إلى ملابسها المعلقة، تشتم رائحتها التي لا تزال عالقة ببعضها وهي تضمها بتنهيدة عميقة، تخرج كل حزن قلبها، ثم تفرد أطقم ابنتها الوحيدة التي كانت قد اشترتها لها مع بداية شهر رمضان، تطلق زفيرًا حارًّا يخففُ ما ازدحم بداخلها قبل أن يوقظها صوت ابنتها الشهيدة حنان خضور (18 عامًا) القادم من ذاكرتها القريبة: "بدي أضلني أستقبل العيد زي الطفلة" معبّرةً عن شدة لهفتها وشوقها لقدوم العيد؛ حينما ردت على طلب والدتها منها التريث والفرح بما يناسب سنها، فهربت دموعٌ من عيني والدتها وهي تتذكرها.
طقوس حنان التي تسكن في بلدة "فقوعة" شمال جنين بالضفة الغربية المحتلة في استقبال العيد كانت مميزة، فقبل حلوله، ولكونها البنت الوحيدة لوالديها، كانت تساعد والدتها على إعداد الكعك والمعمول، وتنظيف البيت وتزيين شرفة المنزل بالورود التي تجمعها من حديقتهم، حتى بات المنزل في غيابها فارغًا من الضحكات والأجواء المرحة التي كانت تعدها، وبات العيد خاليًا من الفرح وكأنَّها "أخذت معها الفرح ورحلت" على رأي أمها، وهذا حال عموم عائلات شهداء فلسطين، وخاصةً الشهداء الذين ارتقوا في شهر رمضان وتعيش عائلاتهم أجواء غيابهم الأول في عيد الفطر.
ورود ذابلة
من بقايا الحزن والفقد اللذين يحاصرانها منذ نحو أسبوعين على رحيل ابنتها يتحرك صوت أمها لحظة اتصال صحيفة "فلسطين" بالتزامن مع لحظة تفقدها لملابس العيد: "أنظرُ إلى ملابسها وأتذكر عندما كنا نذهب إلى السوق لشرائها مع بداية شهر رمضان، ولأنها وحيدتنا نشتري لها عدة أطقم تكون شغوفة لارتدائها".
بينما تراود أفكار أمها توزيع ملابس ابنتها، تغلبها أفكار داخلية أخرى تطالبها بالإبقاء على هذه الذكرى الأخيرة، لتشتم رائحتها كلما غلبها الشوق.
صورة من طقوس حنان في العيد تلمع أمام والدتها، قائلة: "كانت دائمًا تستقبل العيد بسعادة عارمة، وكان الجميع يقدم لها العيدية فتأتيني بها والفرحة تغمر وتضعها بين يدي وتقول في حال كان والدها متعطلا عن العمل: أعطِ هدول لبابا، فكان لديها إحساس قوي بالمسؤولية".
في أول يوم للعيد، ستنظر أمها إلى المقعد الذي كانت تجلس فيه مع حنان، إلى طاولة السفرة التي غابت عنها لمسات ابنتها، إلى الورود الذابلة في الحديقة ولم تجد من يلتقطها ويرتبها في باقة ورد كما كانت تفعل.
غاب 16 عيدًا
ولم تعثر فداء الأطرش على مشاهد كثيرة في ذاكرتها لطقوس العيد في حياة شقيقها الشهيد من محافظة الخليل أحمد الأطرش (29 عامًا) الذي استشهد مطلع أبريل/ نيسان 2022 برصاص قناص إسرائيلي بينما كان متوجهًا للصلاة في المسجد الإبراهيمي، فشقيقها الذي أمضى تسع سنوات أسيرًا غاب ستة عشر عيدًا عن عائلته، وكان حاضرا في آخر عيدين قبل استشهاده.
اعتادت فداء هي وشقيقاتها استقبال العيد الساعة السابعة صباحا على مدار تسع سنوات على صوت اتصال بعيدا عن عيون السجانين من شقيقهن، فيقوم بالمعايدة عليهن ويتصل على باقي أفراد العائلة "كان دائمًا غير موجود في زيارة إخوتنا الثلاثة لنا، وفي آخر عيدين كان الأمر مختلفا، فقد اكتمل العدد وكان أجمل شيء دخول إخوتنا الأربعة بيوتنا، وإصراره على التقاط صور معنا، وتقديم العيدية لنا ولأطفالنا".. تستحضر فداء لـ"فلسطين" صورة شقيقها الشهيد في آخر عيدين.
قبل يومين وأثناء زيارتها لعائلتها، وأثناء ترتيب فداء وشقيقاتها خزانة أحمد، عثرن على ملابس جديدة وحذاءً كان قد اشتراها قبيل حلول شهر رمضان وخبأها في خزانته ليرتديها في العيد، فحاولت كل واحدة أن تواري دمعاتها عن الأخرى.
مرَّت أيام شهر رمضان ثقيلة على عائلة أحمد "عندما كان أسيرا صبرنا على غياب صورته وحضور صوته، لكن اليوم غابت الصورة والصوت، فستكون أيام العيد ثقيلةً علينا".. قالتها بصوت يعتصر ألما.
قرر إخوة الشهيد أحمد في هذا العيد السير على دربه ببدء العيد بالصلاة في المسجد الإبراهيمي ثم زيارته في المقبرة "جمال العيد بلمة الأحباب، هذا العيد سيكون مختلفا بفقد أخ عزيز، وهذا الغياب صعب، لكن الأصعب علينا هو احتلال فلسطين ونحن نرى الأقصى يدنس" تقول شقيقته.
عاش أحمد على نقاط التماس، يعرفه جيدًا جنود حاجز "أبو الريش" القريب من منزله، يلقب ببطل "المولوتوف" في الخليل، رفض خيار التعايش مع الاحتلال، وخلال مسيرة كفاحية طويلة أصيب ثلاث مرات وأسره الاحتلال سبع مرات بلغت مجموعها تسع سنوات في السجن، وعمه الشهيد أكرم الأطرش أحد قيادات كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس في الخليل، والذي ارتقى شهيدًا عام 2000.