يقف الطفل محمد وأمامه رجل طويل القامة يراه لأول مرةٍ، يفرد له ذراعيه ويضمه إليه بحنان يقبل وجنتيه ليروي شوقه بعد أن كحل عينيه برؤيته: "أنا بابا!".
لكن ذلك لم يدم طويلاً، ففي 17 من أبريل/ نيسان الجاري، أفاق محمد على صوت قرع متواصل لباب البيت، وصوت انفجارات لقنابل الصوت، صورة غريبة ومخيفة انطبعت في عقل الطفل الذي احتمى في حضن والده الأسير عبد الرحمن خدرج (31 عامًا)، وتشبث به وهم يقتادونه مكبل اليدين.
"أيام معدودات تلك التي عاشها محمد بصحبة والده منذ ولادته قبل عامين. خلال الفترة التي أمضاها عبد الرحمن خارج الاعتقال كان يصطحب محمد معه ويخصه بالألعاب والحلويات، حتى تعلق به كثيرًا، اعتقدت أننا سنعيش في استقرار نفسي.."، تستهل والدة الطفل حديثها لصحيفة "فلسطين".
بصوت يسيطر عليه الأسى والقهر تقول: "منذ اعتقال عبد الرحمن يأتيني محمد في نفس الموعد ويبدأ بالسؤال عن والده ويلح علي باكيًا: بدي بابا" (..)، استطعت خلال الأيام الماضية توضيح الأمر له أن الاحتلال أخذوا والده، فصار يبكي محدثًا نفسه عندما يفقد والده، أو يعثر على صورته بالهاتف المحمول: "اليهود أخذوا بابا" ثم يعاود السؤال عن موعد عودته للمنزل".
هكذا تعيش الأم لحظات صعبة أعادها فيها الاحتلال للمربع الأول، عندما اعتقل الاحتلال زوجها في 21 مايو/ أيار 2020 لمدة عشرين شهرًا وأفرج عنه قبل ثلاثة أشهر.
تعلق على عدم معرفة محمد والده، "في اللحظات الأولى استغرب شكل والده ولم يعرفه، خاصة أنه لم يره بتاتا على أرض الواقع فكان عمره لحظة الاعتقال خمسين يومًا، وهي فترة كفيلة بمحو صورة والده من ذاكرته، رغم أني يوميًا كنت أعرض عليه صورة والده ومقاطع مرئية له حتى أطبعها في ذهنه"، لكن ما فعلته الأم لم يغنِ عن لحظةِ عناقٍ واحدة.
بين الاحتلال وأمن السلطة
عبد الرحمن وتوأمه عبد الحق وشقيقهم عبد الرزاق، ثلاثة إخوة من عائلة "خدرج" بمحافظة قلقيلية، جمعهم سجن "الجلمة" الواقع شمال فلسطين المحتلة، أكثر مما جمعهم منزل عائلتهم، بفعل اعتقالات الاحتلال المتوالية لهم، فبالكاد ينهون اعتقالاً ويتنسموا الحرية قليلاً حتى يعاد اعتقالهم من جديد.
تقول والدتهم "أم نصر"، إن سلطات الاحتلال وأجهزة أمن السلطة يتناوبون على اعتقال الأشقاء الثلاثة وتعذيبهم، "ففي عام 2014 سجن الاحتلال التوأم 28 شهرًا، إضافة لمرات اعتقالات عديدة في سجون أجهزة أمن السلطة نغصت حياتنا".
وتمضي إلى القول: "نعاني منذ عام 2009، لا الاحتلال تركنا ولا السلطة التي اعتقلت زوجي عند استخبارات قلقيلية وتعرض للتعذيب نتج عنها إصابته بجلطة في يديه، ثم أفرج عنه وأمضى ثلاثة أشهر اعتقال إداري لدى الاحتلال".
قبل فترة الاعتقال السابقة، أمضى التوأم عدة أشهر في سجن "جنيد" الذي تديره مخابرات نابلس، لحظاتٌ لا تنساها الأم التي سمح لها بزيارة أبنائها بعد شهرين على اعتقالهم.
تقول: "عندما رأيت عبد الرحمن كان يرتدي ملابس العمل بورشة الحدادة التي كان يلبسها لحظة اعتقاله، حاولت ضمه ومعانقته، فلم أجد منطقة في جسمه يمكنني أن أمسكه بها، قال لي: كل جسمي بوجعني من التعذيب".
وتستطرد الأم: "في تلك الفترة من عام 2014، أضرب عبد الرحمن وعبد الحق عن الطعام حتى أفرج عنهما ثم أعاد الاحتلال اعتقالهما 28 شهرًا على نفس الملف الذي حقق معهما عند السلطة".
بعد انتهاء فترة الاعتقال الأطول، لم يُمضِ الشقيقان أسبوعين في ورشتهما حتى عاودت السلطة ملاحقتهما، حينها طلبت أمهما منهما تسليم نفسيها لوقائي قلقيلية، "فذلك أفضل من حياة المطاردة"، مشيرة إلى أنه وخلال الاعتقال كتب عبد الرحمن على جدار زنزانته: "من كان الله معه فمن عليه". كانت هذه العبارة كفيلة بتعرضه لتعذيب شديد، كسرت على إثرها ساقه.
في عام 2020، وبعد ثلاث أيام من عقد العائلة مراسم زفاف للتوأمين، جاءت مخابرات قلقيلية إلى المنزل تطلبهما للاعتقال، "حتى زواجهم ما فرحوا عليه لكن بضغط من المؤسسات الحقوقية أفرجوا عنهم"، تقول الأم.
تحتار الأم في التعبير عما يعيشه أبناؤها الذين أعيد اعتقالهما بعد زواجهما: "مكثا مع زوجاتهم نحو أحد عشر شهرًا رزق عبد الرحمن بـ "محمد"، ورزق عبد الحق بـ "حور"، حتى أفقت على اتصال من كنتي قبل أسبوع تخبرني بمداهمة الاحتلال البيت واعتقالهم، والعبث بالبيت في أثناء التفتيش وتخريب كل شيء، وسرقة مبلغ ثلاثة عشر ألف شيكل رغم أنهم يعتقلون إداريًا ويجب إعادة المبلغ وكل ذلك لأجل تنغيص حياتهم".
حياة خالية من الأمن والراحة تعيشها عائلة "خدرج" منذ عام 2009 يتناوب الاحتلال والسلطة على اعتقال التوأم عبد الحق وعبد الرحمن، لكن ما لا تفهمه الأم التهمة التي اعتقل في إثرها عبد الرزاق (25 عامًا) والذي يعمل سائق حافلة، بـ "نقل مصلين للمسجد الأقصى"، متسائلة: "منذ متى أصبح أداء العبادة تهمة تستوجب السجن".