مع بداية انتفاضة الأقصى، والشهداء بالعشرات، وجامعتنا كانت طليعة مفجري تلك الانتفاضة، جاءتني بعض طالبات الإعلام في مقابلة يسألن عن رأينا "في عيد الحب". آه والله. ذلك لأننا وقتها استنكرنا بعض الفعاليات المتعلقة بهذا اليوم داخل الجامعة والشهداء يرتقون يوميًّا. اللطيف أن إحداهن عرضت عليّ وردة في ختام اللقاء لاستكشاف تمتعي بالأريحية والانفتاح وقبول الآخر. ليس مهمًّا ماذا قلت، ولا ماذا فعلت. المهم أن الأوساط المنعزلة عن الهمّ العام موجودة فينا دائمًا، وهذا طبيعي.
قبيل تلك الانتفاضة امتدت المهرجانات الغنائية وفعاليات ليالي الصيف حتى غطت مناطق السلطة كلها، ليس رام الله وحدها، هذا فضلًا عن انهيار الحركة الوطنية الذي امتد من 94- 2000، لولا تلك الانتفاضة التي أنقذت الجميع، وكان انهيارها في غزة أشد من الضفة، ربما لتأخر دخول السلطة الضفة، وربما لأسباب أخرى.
الشاهد هنا أنه لا جديد في مثل حفلات روابي الأخيرة التي تزامنت مع إغلاق المسجد الأقصى، الجديد أن ذاكرة الشعوب عامل مهم يحول دون المقارنات الاعتباطية، إذا لا يمكن أن يخوض شعب ملحمتين كفاحيتين متقاربتين ثم ينتهين بنتائج سياسية مدمّرة دون أن يكون لذلك أثر على فاعلية الشعب ومبادرته، فكيف إذا رافق ذلك تفكيك وانهيار للقوى المنظمة وعمليات إعادة هندسة للمجتمع؟! لذلك قلنا إن ما سمي بانتفاضة القدس حدث مهم، وله سماته الخاصة، ولكن لا تحملوه فوق طبيعته وظروفه وشروطه.
وإن كان ثمة ذاكرة تراكمية للشعوب، فإن ذاكرة قادة الرأي، خاصة في زمن استسهال الكلمة في السوشيال ميديا، قصيرة.. يعتقد أصحابها أن الثورة والتمرد، فعل سهل وعادي وطبيعي، وأن الشعب تكتل من عقل واحد يفترض أن يتحرك حيثما قرر صاحب الرأي له أن يتحرك!
النّاس كل النّاس تميل إلى السلامة، لكنهم ورغم ذلك سريعو التكيف، ولذلك تتسع الثورات، لأسباب منها قدرة النّاس على التكيف، وإلا فلا أحد يحب أن يضطرب أمره واستقراره وأن يهدم بيته ويقطع رزقه أو يسجن أو يقتل أو يفقد أبناءه! والاحتلال دائما يحاول إفهامنا أن الذل أقل ثمنا من التمرد، ويسمي ذلك "كي الوعي".
بالنظر إلى تجاربنا الكفاحية، يتأكد أننا بحاجة إلى قوى منظمة، تفتح نوافذ الفعل، أو تقود الجماهير، أو تحافظ على استمرار الفعل الكفاحي.. لولا هذه القوى المنظمة لما استمرت الانتفاضتان الماضيتان، ولما تمكنت المقاومة في غزة من فرض نفسها والحفاظ على ذاتها رغم كل النتائج التي ترتبت على ذلك على مستوى حياة الناس العادية، ولانعدام تلك القوى في الضفة تراجعت وتيرة ما سمي بانتفاضة القدس.
لكن ثمة عامل مهم يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار بالنسبة للضفة الغربية وهو وجود قوة محلية تتمتع بقدر من السلطة ولا تكتفي بسياسات رافضة للثورة على الاحتلال، ولكنها تفرض سياسات نقيضة، وتحمل الشعب عليها.. وهذه عقبة بالغة الأهمية، وليس من السهل تجاوزها، والموقف منها شديد التعقيد والتركيب.
شتم الناس وازدراؤهم ليس حلًا.. ومن يشتمهم أو يتهمهم بالخور والذلة ليس أحسن منهم غالبا.. لأننا أكثرنا نمارس الفعل ذاته، وهو استسهال الكلام.. الناس يغلب عليهم طباع واحدة، ولكن تختلف ظروفهم والتي من أهمها السلطات الحاكمة والقوى المنظمة التي تقود..
فهم طبائع اجتماع الناس وحركتهم ضروري، ينبغي ألا نكون أبناء لحظتنا وأن نتمتع بذاكرة جيدة، حتى لا نعتقد أننا بهجائنا للناس أحسن منهم.. أنا نفسي أجدها مندفعة أحيانا لزاوية الهجاء هذه، ولكني أكبحها، مع كل الخذلان والمرارات التي يجدها المرء في طريقه، والتي يعرفها أكثر من جرب الاعتقال أو المطاردة!
ثمة استطراد أخير.. تجربتي البسيطة في هذه الحياة تفيد أن من أراد أن يغير الناس، أن يغير واقعا، فعليه أن يفهم الناس وأن يتحملهم، تحمل الناس، تحمل طباعهم المُقعِدة التي جُبلوا عليها تسعة أعشار المهمة.