يحتفظ اللاجئ الفلسطيني نزار الدباس بزي المسحراتي التقليدي الذي اعتاد ارتداءه في أزقة مخيم اليرموك السوري منذ كان في الثالثة عشرة من عمره.
اليوم يجوب نزار حارات خان يونس جنوب قطاع غزة بجلابية قمحية تزينها كوفية يعتمرها على كتفيه وطربوش أحمر لزم رأسه. يقرع على طبلته بعصا رفيعة وهو يردد بلكنة سورية أهازيج شعبية وتراثية يدعو فيها الصائمين لتناول طعام السحور.
قبل نحو 25 عامًا عاد نزار إلى غزة برفقة أسرته ليكمل مهمة التسحير التي يؤديها بشغف، ولم يترك شهرًا من أشهر رمضان إلا وأوقظ الناس من أهل حيه في منطقة "قيزان النجار" في خان يونس، فبات الأطفال يستقبلونه على نوافذ منازلهم وقت السحور.
تعلم الدباس التسحير على يد مسحراتي مخضرم كان يرافقه في حارات مخيم اليرموك، وحفظ عنه الجمل التي يرددها حتى يومنا هذا.
ومن "اصحى يا نايم، وحّد الدايم، وقول نويت، بكرة إن حييت، الشهر صايم، والفجر قايم، اصحى يا نايم، وحّد الرزّاق، رمضان كريم"، "اصحى يا نايم وحّد الدايم، السعي للصوم خير من النوم"، "أفلح مَن قال لا إله إلا الله وصلّى على رسول الله"، تلك العبارات وأكثر اعتاد نزار سماعها من المسحراتي منذ كان طفلاً، وبقيت محفورة في ذاكرته حتى اليوم ليرويها للكبار والصغار.
صناعة الفرح
يقول الدباس (50 عامًا) لـ"فلسطين": "أحببت مهنة المسحراتي منذ أن كنت طفلا أستيقظ على صوته لكي أتناول السحور، ثم أمشي برفقته حتى ينهي مهمته عائدًا إلى بيته".
ويتابع: "أصبحت عنوان رمضان في خان يونس، فأجد الناس على الأبواب ينتظرونني، أقف أمام أبواب منازلهم أنادي على أصحاب المنازل، ويرافقني بعض الأطفال أيضا، حيث إنني أدخل الفرحة على قلوبهم".
وتتملك نزار رغبة كبيرة في صناعة البهجة بقلوب من حوله، وهو مستعد لأن يفعل لأجلها أي شيء، مشيرًا إلى حاجة الأطفال بشكل كبير للانبساط بأجواء رمضانية غير التي تحتفظ بها ذاكرتهم، فيكفي ما عانوه من اعتداءات إسرائيلية متكررة على غزة خلال رمضان في عامي 2014 و2021.
ويمضي إلى القول بأن السعادة التي يراها في أعين الأطفال تأخذه إلى أجمل أيام حياته في مخيم اليرموك حيث قضى صباه وشبابه برفقة صديقه سليمان، الذي لم ينقطع الاتصال بينهما منذ أن غادر المخيم عام 1997، يستذكر معه أجواء الإفطار والسهرات الرمضانية في البساتين.
ينطلق نزار من بيته الساعة الثانية والنصف فجرًا ويستمر بالمشي ساعة وربع الساعة حتى ينتهي من إيقاظ الناس في منطقة "قيزان النجار"، يُحيي تراث المسحراتي الذي غاب عن كثير من المدن والبلدات الفلسطينية، ووجوده أصبح قليلا.
إحياء التراث الشعبي
ويؤكد نزار أن وجود المسحراتي هو إحياء لتراث شعبي يتلاشى في إثر اعتماد الناس على منبهات الهواتف الذكية، وتهليلات المساجد، "ولكي يبقى المسحراتي ميراثا شعبيا يجب ألا يتخلى عنه الناس لأنه بهجة رمضان الدائمة".
وفي وقت خروجه من المنزل يأتي إلى منزل المسحراتي "نزار" العديد من الأطفال حاملين الفوانيس ويطلبون منه اصطحابهم معه في جولته لإيقاظ الناس لتناول طعام السحور.
ويصادف نزار العديد من الأشخاص الذين يقومون بتصويره من نوافذ البيوت ليشاركوا تلك المقاطع مع أصدقائهم، وهو بدوره يداعبهم بالعبارات مثل "صلّوا على رسول الله" ليلقى الرد على الفور.
ولا يحصل نزار على أي عائد مادي لقاء عمله في مهنة المسحراتي، ويشدد على أنه لا يبتغي من عمل هذا سوى مرضاة الله، وكسب ثوابه، وسعيه لإحياء سنة النبي محمد صلى الله علي الذي دعا بالبركة للمتسحرين.
ويتابع: "المسحراتي جزء من التراث الفلسطيني الذي لا يمكن نسيانه أبدًا، ومن الضروري أن أصنع البهجة وأرسم الابتسامة على شفاه الناس الذين يحبون أن أكون في مناطق سكناهم، منبها إلى أنه قام بنقل التراث السوري القديم إلى قطاع غزة ويعمل على نشره مع ارتدائه الزي التراثي السوري.
ويردف نزار: "عملت في هذه المهنة برفقة أخي عندما كنا نسكن في مخيم اليرموك، الحياة بقطاع غزة تذكرني بذلك المخيم، يجب أن نقوم بتوريث هذه المهنة لأبنائنا حتى نحافظ على عاداتنا وتقاليدنا القديمة، فمهنة المسحراتي تراث فلسطيني لا يمكنني تركها، وسوف أظل أعمل بها لوجه الله حتى آخر يوم في حياتي".
ويتمنى نزار أن يجوب شوارع وأزقة القدس العتيقة في ليالٍ رمضانية خالية من الاحتلال.