من خلف الزجاج العازل أطلَّ عليهم شاحب الوجه، يسكن ملامحه الهم والألم معًا، ينظر إلى ابنته سوار (ثلاث سنوات) في أول زيارة لها يتأمل ملامحها التي تغيرت وكبرت في غيابه فحينما أسره الاحتلال كانت رضيعة لم تزد على شهرين، كانت بعيدة عن عينيه، ينادي عليها من خلف الزجاج ويشير بيديه في حين يضع سماعة الهاتف على أذنه وتمسك أمها الهاتف من الجهة الأخرى لتسمع صوت زوجها، تتسابق عبارات الفرح للخروج من فمه: "سوار.. أنا بابا" وانتظر ردها، لكن هذه الطفلة التي لم تجلس في حضن والدها دقيقة واحدة شعرت بالخوف فلم تستوعب "الكلمة" التي حرمت منها ثلاث سنين، لتطلب من أمها العودة إلى المنزل.
يسأل زوجته: "هو بدأ رمضان؟" لم تعطه الجواب قبل أن تبادر هي سؤاله: "أنت صايم؟" اعتقد أنها تسأل عن الوجبات اليومية التي تقدم إليه في السجن، فأجابها: "كل يوم برجعها" احتجاجًا على ظروف الزنزانة السيئة، لتخبره بمرور أربعة أيام على بدء شهر رمضان المبارك، فتغيرت ملامحه فجأة وهو ينظر إليها في ذهول وصدمة بأن فاتته تلك الأيام ولم يعلم بها "ايمتا بلش؟ معقول؟".
ليس غريبا على الأسير ربيع أبو النواس (32 عامًا) ذلك، فزنزانته معتمة تحجب عنه ضوء الشمس فلا يميز الليل من النهار، وغير مسموح له الاتصال بعائلته ولو لدقيقة واحدة، معزول عن العالم في زنزانة صغيرة بسجن الرملة لا يكفي سريرها الحديدي لمد قدميه فيثنيهما خلال نومه، وكأنَّه يعيش في زمان آخر لا يعرف مواقيته، تمنع عنه الكتب، ويمنع عازل زجاجي وضعه السجانون على باب زنزانته أي صوتٍ خارجي، فلا يتحدث إلا مع نفسه، ما زاد حالته النفسية سوءًا.
والأسير "أبو النواس" من بلدة سنجل شمال رام الله، متزوِّج وأبٌ لثلاث بنات هن فاطمة (7 سنوات) وماسة (4 سنوات) وآخر العنقود سوار (3 سنوات)، معتقل منذ سنتين ونصف السنة في سجون الاحتلال، تحديدا في أكتوبر/ تشرين أول 2019، أمضى أكثر من سنتين منها في العزل الانفرادي، وهو موقوف، ويطالب الاحتلال بسجنه 16 سنة بتهمة طعن سجّان في سجن "عوفر".
"على الرغم من أنني هيأتُ ابنتي سوار لمقابلة والدها في أول زيارة، فإنها عندما وصلت إليه شعرت بالخوف، وطلبت هي وشقيقتها ماسة التي اصطحبتها أيضًا رفقة جدتهما المغادرة والعودة للبيت، ولقد تأثر كثيرًا؛ لأنَّ ابنتيه لم تتفاعلا معه أو بالأحرى لم تتعرف سوار إليه؛ كان وضعه الصحي صعبًا، فقد انخفض وزنه من 120 كغم -وكان يلعب رياضة "كمال الأجسام"- إلى 60 كغم" تستمع "صحيفة" فلسطين إلى صوت زوجته المليء بالقهر والألم على حال زوجها الأسير.
تعلق على رداءة الصوت في السماعات الهاتفية التي يتحدث فيها الأسير مع زوجته ويفصل بينهما عازل زجاجي "كنا نسمع صوت "خرخشة" أشبه بصوت رنين متواصل، فتركنا السماعات، وبدأنا نتحدث بصوت مرتفع من خلف الزجاج، سمح عدم وجود أهالي للزيارة في السماع قليلًا (..) كان مشتاقًا لبناته، خاصة سوار لكن الاحتلال رفض إدخالهن".
عدم معرفة زوجها بحلول شهر رمضان، دليل على حجم ما يعانيه الأسرى في سجون الاحتلال، لتعذيبهم نفسيًا، وحرمانهم من ممارسة شعائرهم الدينية.
تدخلك زوجته في تفاصيل زنزانته كما رواها هو لها "الزنزانة ضيقة قذرة، كلما يدخل زنزانة جديدة ينظفها حتى يستطيع النوم، وبعد انتهائه من التنظيف ينقلونه إلى أخرى قذرة، ويكررون نفس المحاولة لإرهاقه، لذلك احتج على سياسة الاحتلال وأرجع الوجبات إلى أن يحسنوا وضع اعتقاله، لا يوجد أي وسيلة اتصال معنا ولا يوجد لديه مذياع (راديو)، لا يعلم وقت الصلاة، ولا التاريخ، غرفته مراقبة في الكاميرات، كل السجناء حوله في سجن الرملة جنائيون إسرائيليون".
في يونيو/ حزيران 2021، وبعد عام ونصف العام من العزل في سجن "الرملة"، أنهى الاحتلال عزله ونقله إلى أقسام سجن "ريمون" عند الأسرى الفلسطينيين، تغيرت حالته للأحسن "نقله عند الأسرى بعد فترة طويلة من العزل، أراحه نفسيًا، فأجبره الأسرى على تناول الدواء كي تتحسن حالته، وخففوا عليه صعوبة البعد عن بناته وعائلته، كان يشاركهم الأنشطة ويتفاعل معهم".
فسحة الفرح التي حصل عليها الأسير بين عتمة العزل لم تدم طويلًا، بسبب اختلاف ضباط السجن عليه بدعوى "أنه يشكل خطرًا عليهم" – كما تقول زوجته – ليعيدوه للعزل في سجن "هداريم" لمدة ثلاثة أشهر، ثم أعيد للعزل بسجن "الرملة".
عندما خرج من العزل الانفرادي لمدة سنة ونصف السنة، انتظرت زوجته بفارغ الصبر السماح لها بزيارته، مرَّ بتجربة قاسية عندما أعيد للعزل، رأته زوجته في أول زيارة لها بعد عزله الانفرادي بوجه مختلف "أحكم اليأس سيطرته عليه، قال لي: "إن الشهادة أفضل من البقاء في هكذا وضع" مأساوي أشبه بموت بطيء".
طفلته فاطمة والتي كانت تبلغ أربعة أعوام ونصف العام، لحظة اعتقال والدها، لا تكف يوميًا عن النظر بصورته المعلقة في غرفتها، ومشاركة أمها أفكارها الداخلية "يا ترى شو أبوي بسوي هلقيت!" فابنة السبعة أعوام التي نهلت من حنانه، وحضنه، تعرف مقدار حبه لهن، وحجم الألم الذي يعيشه.
على مائدة الإفطار في رمضان، تجلس زوجته مع بناتها الثلاث وحدهن، تخنق صوتها الدموع، تصف حالها: "هي لقمة مغموسة بالقهر في غيابه، وجوده بيننا هو استقرار نفسي لنا نحن العائلة، فلا تشتت بوجوده، نفتقده في رمضان، ونفتقد حضوره على المائدة، وقبل الإفطار، وعندما نذهب لشراء ملابس العيد لبناته".

