فلسطين أون لاين

تقرير الطفل "قصي حمامرة".. أصيب بقدمه ومجندة إسرائيلية أعدمته بـ 5 رصاصات برأسه

...
الشهيد الطفل قصي حمامرة (أرشيف)
غزة/ يحيى اليعقوبي:

توقفت سيارتها أمام مطعمٍ للمأكولات الشعبية قريب من منزلهم ببلدة "حوسان" غرب بيت لحم، الثالثة عصرًا، تنادي أحد العمال: "خالتي، ناديلي ابني قصي"، أطلَّ عليها بخطواتٍ سريعة بوجه مشرق تعلوه فرحة سعيدًا بهذه الزيارة الغريبة من أمه، فلم يعتد زيارةً خاطفة منها رغم قرب مكان عمله عن البيت: "مالك يما بدك شيء يا غالية؟" قالها وهو يسند يديه إلى نافذة السيارة من الجهة الأخرى.

صارحته عن سبب القدوم المفاجئ "فش اشي يا أمي، بس والله اشتقتلك" افترشت ضحكةٌ ملامح قصي مفتخرًا بوالدته، جال نظره بالمنطقة فيما بقي صوته معها يلفت انتباهها "المنطقة مليانة قناصة"، كلامه أجج مخاوفها "الله يرضى عليك يا أمي، بعد الإفطار سكر وارجع على الدار".

مساء الأربعاء الماضي، وبعد الإفطار، وردت والدته مكالمة هاتفية، بدأ المتصل حديثه بسؤالٍ: "وين ابنك قصي؟!"، اعتقدت أنه يريد شيئًا منه "هو بالمطعم.. بدك شيء منه، عدّه روح"، ليطلب منها التماسك والصبر "شدي حيلك، ابنك شهيد".

"شهيد؟" صرخة قهر بأعلى صوت دوت من قلبها وتردد صداها في كل أنحاء المنزل، تجمّع إخوة قصي (شاب وثلاث بنات) حولها، الجميع لا يصدق "الصدمة".

تركت كل شيء وذهبت نحو المنطقة، لم تكترث لرصاصات القناصة التي بدأت تتساقط بقربها كلما حاولت التقدم هي وزوجها، ولا لنداءات الناس "ارجعي، قصي أخده جيش الاحتلال" تتعلق بأملٍ أنه ما زال حيًا أو مصابًا، واصلت التقدم، لكن مع كثافة رصاص القناصة وقنابل الغاز المسيلة للدموع أجبرها المواطنون على التراجع والدخول في بيت أحدهم، فيما بقيت المواجهات بين جيش الاحتلال والشبان محتدمة.

"كان الرصاص يتساقط تحت قدمي، خنقنا الجنود بقنابل الغاز، كنت أريد التقدم أكثر لأن دمي ليس أغلى من دم ابني مهما كان الثمن" وجعها ينغرس بين ضلوع قلبها ترافق صوتها دموع حارقة وهي تروي لصحيفة "فلسطين" لحظات عصيبة عاشتها في محاولة البحث عن الخبر اليقين عن مصير قصي: "بقيت في بيت الجيران حتى الساعة الواحدة فجرًا، لا نستطيع الخروج من المنزل بسبب قنابل الغاز والرصاص، الساعة الثانية فجرًا نقل لمستشفى بيت "جالا" الحكومي واستطعت رؤيته، وكان مجردًا من الملابس في مشهد مؤلم، قبل عدة ساعات يكون ابنك معك، وتنتظره لأنك مشتاق إليه فجأة تراه مسجى مضرجًا بالدماء".

تنقل والدته عن شهود عيان، أن ابنها قصي وصديق له، خرجا بعد الإفطار لتسليم مال (جمعية ادخار) لأحدهم، وفي الطريق مرا على نقطة تفتيش في المنطقة، تزامن مرورهما مع مواجهات بين الشبان وجيش الاحتلال، "قال لي الشباب، إن قناصًا إسرائيليًا أطلق رصاصة على قدم قصي، فحاول الزحف والابتعاد عن المنطقة، فقامت مجندة بالاقتراب منه ورميه بخمس رصاصات فجرت رأسه".

قبل ليلته الأخيرة، جلس قصي في سهرة مع والدته، تحضُرها تفاصيله "قال لي: "بدي ألبس دشداشة (عباءة) بكرا، جاي عبالي أصلي بالأقصى، بتقدروا تهربوني؟" فرفضت ذلك، وقلت له: بلاش يصير فيك اشي، أوديك على الموت برجلي، وخشيت أن يحدث معه ما حدث قبل رمضان بشهر، حينما اعتقل في أثناء مواجهات بين الشبان وجيش الاحتلال، وكان يومها يقف بداخل أحد البقالات".

لمدة يوم كامل ظلَّ قصي في التحقيق يومها، تعرض للشبح والتعذيب، "من شدة الضرب الذي تعرض له، عاد إلى البيت بلون جلد أزرق، كان المحققون يريدون تثبيت تهمة إلقاء مولوتوف عليه، لكنهم لم يجدوا أي شيء ضده" والكلام لأمه.

اتصل به ضابط إسرائيلي من (رقم خاص)، وطلب منه الحضور في صباح الغد وتسليم نفسه للمقابلة، لكن قصي رفض ذلك: "بدكم تعتقلوني تعالوا على داري، والعميل تبعكم أكيد بورجيك البيت، "ثم اتصلوا به مرة أخرى هددوه بالقتل". تقول أمه.

لم تكن أحلام قصي كبيرة، فهذا الفتى الذي عمل مبكرًا أراد مساعدة والده وبناء مستقبله، صدى ضحكة ممزوجة بالألم عبرت حديث أمه "في آخر أيامه، جلس مع والده يمازحه، وكان يطلب بناء طابق علوي تحضيرًا للزواج، يومها قال له والده ممازحًا: "هاتلي عنوان العروس وأخطبلك اياها" من شدة حبنا لقدوم هذه المناسبة السعيد، ورسمنا مخططًا له، لكن كل شيء انتهى (..) كان يحب شقيقاته، لديه طيبة غير عادية".

"راح قصي وضل محمد هو وخواته الثلاث ربنا يخليلي إياهم ويصبرنا على فراقه".. تبث عيناها صورة من الذكريات وهي ترثيه "الله يرضى عليه، كان ضحوكًا صديقًا، وليس ابنًا فقط، أكثر ما أفقده فيه، عندما أكون في المطبخ ويأتي ليقبل رأسي، ويسألني بمزاح: بتحبيني؟، ودائمًا أرد عليه: "في حد بكره ابنه"، ولا يتركني إلا ويقول لي: "بحبك يما".

"حسبي الله ونعم الوكيل، في كل من يعتدي على شعبنا، حرموني طفلي، وقتلوني قبل أن تصله الرصاصات، وحرموه طفولته" سكت صوتها، وكأنَّ الاحتلال أطلق النار على قلبها حينما قتل لها نجلها الشهيد، لا تستوعب أنها ستذهب لغرفته ولن تجده، وأنها ستذهب إلى المطعم ولن يطل عليها مرة أخرى، لن يعود إلى البيت.

في أثناء التشييع، جاؤوا به ووضعوه أمامها، تهاوت دمعاتها واحدة تلو الأخرى وتساقطت على جثمانه تعانقه هذه المرة بدمعات لم يشعر بها، خائرة القوى، لا تصدق أنها تنظر إلى طفلها وأنه لن يرد عليها، لأول مرة لن يقول لها "بحبك يما"، ممددًا جثة هامدة بلا حركة، تودعه بينما تتكئ على كتف إحدى المعزيات "سلام يا عمري.. سلام يا حياتي" ثم رفعه المشيعون مرددين "خلي الشهيد بدمه.. ألف تحية لأمه".