فلسطين أون لاين

​(الكارلو) يستعيد الردع في ساحات الأقصى

منذ ثورة البراق عام 1929م وما جرّته محاولة المهاجرين اليهود المبكرة لتهويد حائط البراق عليهم المسجد الأقصى محميّ بمعادلة خوفٍ مما قد يجرّه استهدافه من آثارٍ مكلفة.

هذه المعادلة تكرّست تكرارًا على مدى عمر الصراع، ولم تكسر سوى مرة واحدة في حريق المسجد الأقصى عام 1969م، حين كانت الجماهير خارج معادلة الصراع المباشرة بعد حربين مدمرتين للمجتمع الفلسطيني ونسيجه وإمكاناته، لكنها عادت إلى نصابها مع استعادة المجتمع الفلسطيني تحت الاحتلال مبادرته من جديد، فشكّلت مجزرة الأقصى عام 1990م الذروة الثانية للانتفاضة المباركة، وجاءت هبة النفق عام 1996م ردًّا على افتتاح الحكومة الصهيونية أنفاق الحفريات لتشكل النسخة المصغرة عن انتفاضة الأقصى التي انطلقت عام 2000م من ساحات المسجد الأقصى بعد اقتحام شارون، وشكلت ذروة الانتفاضات الفلسطينية منذ الاحتلال الصهيوني عام 1967م.

وأخيرًا جاءت انتفاضة القدس عام 2015م لتنطلق من قلب البلدة القديمة، وترد على محاولة الاحتلال فرض التقسيم الزماني في المسجد الأقصى وعدوانه على المرابطات والمرابطين على أبوابه، وجاءت الانتفاضة متأخرة ومعزولة لدور السلطة الفلسطينية في حصار خيار المقاومة أمنيًّا ومجتمعيًّا، لكنها في نهاية المطاف لم تنجح في منعها.

عملية باب الأسباط فجر يوم الجمعة الماضي:

أولًا: تعيد تعزيز معادلة الردع من جديد (العدوان على المسجد الأقصى له ثمن غالٍ)، وهي إعادة كيّ لوعي المحتل الصهيوني بأن هذا قانون غير قابلٍ للكسر أو التجاوز، مهما كانت الظروف.

ثانيًا: أجاد الشهداء الثلاثة اختيار هدفهم بعناية، إذ وجهوا بنادقهم إلى جنود القوات الخاصة المدججين بالسلاح، فهم أداة الاحتلال الذي يحاول تقسيم المسجد الأقصى بالقوة المسلحة، وهو من ينبغي أن يدفع ثمن سياسته، وأن يدرك أنه غير قادر على التمادي فيها أكثر، والعشرات من المقتحمين المتطرفين لا وزن لهم ولا لمحاولاتهم، لو لم يكونوا مدعومين بأضعاف عددهم من الجنود المدججين في كل اقتحام.

ثالثًا: جاء أبطال هذه العملية من أم الفحم، من الأراضي المحتلة عام 1948م، بعد حظر الاحتلال المتتالي لمؤسسات دعم المسجد الأقصى وللرباط وللحركة الإسلامية التي كانت تدعمه، وهذا تكريس لمعادلةٍ مهمة على مستوى العمل الجماهيري هناك: فمساحة العمل الجماهيري أمام الحركات السياسية هناك ليست هديةً من الاحتلال، بل هو مضطر إليها، إذ إن البديل عنها هو أن يدفع بجماهير فلسطينيي الداخل إلى أن يلتحموا بأهل الضفة الغربية وغزة في خياراتهم وأهدافهم، وهو الخاسر الأول من هذه المعادلة، وهي في الوقت عينه تأكيد أن هذا الخيار خيار الالتحام بفلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1967م هو الخيار الأكثر جدوى وفاعلية على المدى الأبعد، لأنه يهز الكيان المحتل من جذوره، ويغني عن انتظار فتات الحرية الذي يلقيه.

رابعًا: هذه العملية حاكت في خيال الشباب الفلسطينيين حلمًا ومثالًا هو الشهادة في المسجد الأقصى المبارك، وأثبتت أنه ممكن، مهما كانت التشديدات الأمنية، وهي على هذا المستوى ستكون علامةً فارقةً في التأسيس لمواجهةٍ شاملة مع الاحتلال تتراكم مؤشراتها والأسباب الدافعة إليها.

خامسًا: سيلجأ الاحتلال بعد هذه العملية إلى استعراضٍ مفرط للقوة لإعادة كي وعي المقدسيين وجماهير الفلسطينيين، بعد أن أذل الشبان الثلاثة بـ(الكارلو) عنفوان جنوده، فكانت محصلة الاشتباك واحدًا مقابل واحد، مع فارق القوة والتجهيز والمواقع المحصنة وكاميرات المراقبة والأجهزة المتطورة، والمهمة الأولى جماهيريًّا هي عدم السماح بتمرير هذا الاستعراض للقوة، وتأكيد ما كرّسه الشباب من معادلة، أن هذا الجيش أضعف من أن يفرض معادلاتٍ.

سادسًا: سيلجأ الاحتلال إلى محاولة استغلال الخوف الذي قد يقع في نفوس الناس من ردة فعله المتوقعة لمحاولة فرض معادلة جديدة في المسجد، أو محاولة تشريع التقسيم الزماني والمكاني فيه، لكن لنتذكر أنه هو من دفع نحو هذه السياسات فدفع ثمنها، وأن حالة جماهيرية سلمية كانت قائمة لحماية المسجد هي الرباط، فاختار هو العدوان عليها والتنكيل برموزها، فكان لا بد له من أن يجني هذا الثمن، ولولا ذلك لانكسر ميزان الردع حول الأقصى.

إن أي خطابٍ للتشكيك في جدوى المقاومة من زاوية ما سيفعله الاحتلال بعدها هو قصر نظر، أثبتت تجارب الشعوب عبثيته، فلو لم يكن المحتل خاسرًا من حضور هذه المقاومة فلماذا ينتقم منها؟!، عملية استعادة الحقوق هي عملية نفسٍ طويل، أثبت مسار التاريخ ونهاية كل حالات الاستعمار في العصر الحديث أنها مجدية لا محالة، وهذا هو العنوان الأهم والأبرز الذي ينبغي أن يتعلق الوعي به.

سابعًا: ما فعله الشبان الثلاثة بـ(الكارلو) ودمائهم هي حماية للمسجد الأقصى عجزت عن مثلها الزعامات والتيجان والفخامات، وهي عملية ضد هدفٍ عسكري للاحتلال في مقدّسٍ يعتدي عليه صباح مساء، ولا يمكن تسويغ التفكير في إدانتها بأي مسوغٍ قانوني أو أخلاقي حقيقي أو مستعار، وكل من تسول له نفسه إدانتها _سواء زعيمًا كان أم فردًا_ ينحاز في المحصلة إلى تهويد المسجد الأقصى المبارك، رمز هذا الصراع ومؤشر تقدّمه والركن الركين في استدامته حتى التحرير.

في الخلاصة: ما فعله الشبان الثلاثة في المسجد الأقصى المبارك هو عملية مقاومة ساطعة الوضوح وجهت سلاحًا محلي الصنع نحو قوة احتلال عسكرية مدججة بالسلاح، واستعادت بالإرادة والدم معادلة حماية المسجد، فحاكت حلم ملايين الشباب بالشهادة في المسجد الأقصى وألهبت تطلعهم إليه، وجاءت من المكان الذي فعل الاحتلال فيه كل ما يستطيع ليحيله ساحةً خلفيةً له ففشل، وإنجاح رسائل هذه العملية يتطلب الالتفاف حولها نهجًا وخيارًا وإعلاء سيرة أبطالها الثلاثة، ومنع استغلال الاحتلال لخوفٍ قد يقع في النفوس مما قد يفعله بعدها، وتكريم عائلة الجبارين التي قدمت لوطنها ومقدساتها ثلاثة من أبنائها، وعدم السماح للاحتلال بالاستفراد بهذه العائلة أو التنكيل بها.