ترى الأوساط الأمنية الإسرائيلية أن جنين شمال الضفة الغربية منطقة خطيرة ومربع أمني يخفي تحته نارا كبيرة حاول الاحتلال إخمادها بالتنسيق الأمني وبعملياته المركزة ضد الضفة الغربية وملف السلام الاقتصادي ومشروع الفلسطيني الجديد الذي ضخ عليه المليارات.
تتزامن الأحداث قي جنين مع سلسلة التطبيع وقمة النقب وتساوق الغلمان العرب مع منظومة الأمن الإقليمية التي تضمن بقاء وقوة الاحتلال، تتزامن مع المشهد السياسي العام المحبط لكل المنخرطين فيه لإنتاج تسوية على الأقل وهمية وشكلية، وتأتي في إطار دولي مشحون في قضية الحرب الروسية الأوكرانية وازدواجية المعايير التي أيقظت محكمة الجنايات الدولية من سباتها الذي طال عقودا من الزمن ظالمة للفلسطينيين.
في مشهد جنين نسف لكل الترويض وبرامج التركيع، مشهد يعيد للذاكرة ما تم إجهاضه بعد انتفاضة الأقصى من أمل التحرير.
غير أن مرتكزات جديدة يبني كل طرف عليها حساباته هذه المرة؛ فجنين المقاومة الآن أقوى معنويا من سنوات سابقة ويعود الفضل في ذلك لمعادلة غزة وصواريخها وآخر المحطات فيها سيف القدس، بالإضافة إلى تمكن المقاومين في جنين من بسط النفوذ على مربع جغرافي يستطيعون من خلاله الانطلاق والتوسع؛ ما يسند تطويرهم وتوسيع حاضنتهم الشعبية والأهم قوة مهاجمتهم لأهداف في عمق الاحتلال بعد أن كانوا فقط قوة دفاع لم تنل الدعم الشعبي مثلما يحدث الآن.
هذه المرتكزات التي تستخدمها المقاومة في جنين تجعل حسابات الاحتلال وأذنابه تختلف كثيرا وتجبرهم على إعادة ترتيب الأوراق.
وعلى الجهة الأخرى الاحتلال في مأزق أمني يتعمق بشكل متسارع ليس في غزة وحسب وإنما في الجبهة الشمالية التقليدية أيضا، وأضيف لهما حالة الذعر الأمني في مدنه الساحلية والانتفاضة المنتشرة في الضفة الغربية بالإضافة إلى التوتر الدولي الذي سيضعف قوة الاحتلال على كل الصعد.
تقف جنين الآن شوكة في حلق التنسيق والتطبيع ويراها الاحتلال خطرا كبيرا؛ بينما تراها المقاومة بوابة القوة المنتظرة منذ زمن في الضفة الغربية لتكون السيناريوهات القادمة محددة وليست متعددة.
السيناريو الأول يفيد بحتمية الاجتياح وأن تلعب بعض الأطراف دور المساند والثوري اللفظي حتى لا تحسب على أنها مساهمة في تدمير المخيم والمقاومة بالتزامن مع وضع كل إمكاناتهم الأمنية في خدمة العملية.
والاحتلال وأذنابهم لديهم رغبة كبيرة في التخلص من ملف جنين فورا حتى يعطوا إشارة هدوء للمستوطن والشارع الإسرائيلي؛ وكذلك يستطيعون إخماد الضفة التي إن اشتعلت ستحرق الاحتلال وما صنعه من مسرح الترويض.
بينما لدينا سيناريو آخر؛ حيث أن لدى الاحتلال مخاوف كبيرة من دخول عش الدبابير نظرا لحساباته الميدانية الاستراتيجية، فهم يرون بأن غزة لا يمكن أن تصمت والضفة والداخل ستشتعل والإقليم ليس بحاجة لمزيد من التوتر الذي سيفضي إلى ما لا تشتهيه سفن ترويضهم.
وهذا السيناريو يقود إلى تسليم ملف إنهاء قضية جنين إلى جهات فلسطينية تركب الموجة من أولها ثم تحاول توجيه دفة الميدان إلى ما تريده التوجيهات الأمنية والسياسية؛ لذلك من المتوقع أن تزداد المقاومة اللفظية التي تشعر الجماهير أن بعض الأطراف التي استهدفت وضربت وأهانت المقاومين وأهل جنين أنهم غيروا سياستهم وأنهم يقودون الثورة الآن؛ وهذه سياسة الإسفنجة الماصة التي تتيح ركوب الموجة وفرض ما تراه من سياسة بعد فترة.
السيناريو الأول يحتاجه الاحتلال معنويا وميدانيا لكي ينتقم ويفتت ويدمر ويجعل من جنين عبرة تحبط الضفة والداخل وحتى تردع غزة معنويا، وهذا السيناريو سيف ذو حدين لا يمكن لأي خبير أو قائد عسكري وأمني أن يتخيل نهايته.
والسيناريو الثاني يحتاجه أذناب الاحتلال حتى لا تنفلت الأمور وتصبح الضفة مشتعلة وتنهار مصالح المنتفعين والمنسقين والمطبعين، وبالتالي تصاغ مسرحية ركوب الموج في محاولة للترويض من الداخل.
بين هذه المحطات فقط ما هو عملي أن منظومة الأمن الإسرائيلية مرتبكة ومحبطة وأن الشارع الفلسطيني ومقاومته متجلية ومنبهرة وتحمل التعبئة والمعنوية، وهناك مؤامرة تحاك بألوان وأصوات وبيانات وتصريحات؛ وحتى اللحظة ما زال المستوطن يخشى أن يسير في شوارع الضفة وحتى في قلب تل أبيب؛ فإن نفذ الاحتلال جريمة الاجتياح فستصبح النتائج خطيرة تقود إلى توسع نموذج جنين لتكون كل الضفة جنين وغزة، وهذا ما يخشاه كل من قال إنه ينتمي لمؤسسة التطبيع ووحل التنسيق.