تجلس وحيدة على مائدة الإفطار وهي التي لديها خمسة أبناء أسرى وسادسهم شهيد، يعيشون على نفس البقعة الجغرافية تحت سماء واحدة، وتغيبهم خمس أحكام مؤبدة اختلفت في عددها بين واحد عن الآخر داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي.
في الصورة؛ أم محرومة من لمة عائلية هي أبسط ما يعيشه الناس بشكل يومي، فكان أمنية بعيدة المنال لدى الحاجة أم ناصر أبو حميد من مخيم "الأمعري" بمحافظة رام الله والملقبة بـ "سنديانة فلسطين"، تكبلها نفس المؤبدات التي تقيد أبناءها.
كان يفترض أن يجلس الخمسة أمامها، يفترض أن يكون في الصورة أحفادها وزوجات أبنائها؛ أن تدب الحياة في الصورة التي تراها معتمة الآن، بلا ألوان إلا من صور جامدة توقف عندها الزمن، على مقعد بيمين والدته تجلس صورة ناصر، المحكوم بالسجن سبع مؤبدات و50 عاما، أمضى منها 30 عامًا.
مائدة وحيدة
بينما تؤنس صورة ناصر (49 عامًا) -الذي أمضى في سجون الاحتلال ثلاثين عامًا تغيرت معها ملامحه واكتسى رأسه باللون الأبيض- والدته، يتألم هو في سجون الاحتلال بعد اكتشاف وجود ورم في الرئتين أدى لتدهور صحته في يناير/ كانون الثاني الماضي، يومها رفض الاحتلال إجراء فحوصات له لمدة ثلاثة أشهر قبل أن ينقله للمشفى بعد دخوله في حالة غيبوبة لثمانية أيام إثر ضغط الأسرى الذي أجبره على ذلك.
"في شهر يناير منعوني زيارة ناصر، ويا ريتني ما شفته، كان نايم ومكلبش، فاقد الوعي، ما خلوني أشوفه غير من مسافة مترين" تستمع صحيفة "فلسطين" لصوتها المقهور عبر الهاتف، واليوم وبعد ثلاثة أشهر كانت على موعد مع زيارة ناصر اليوم، إلا أن إصابته بفيروس "كورونا" ألغت الزيارة التي انتظرتها على أحرٍ من الجمر.
تلمح في المقعد الآخر صورة شريف (45 عامًا) المحكوم بالسجن أربع مؤبدات والمعتقل منذ عام 2002، وتدور دائرة المقاعد عند نصر (47 عامًا) المحكوم بالسجن خمس مؤبدات وأمضى في سجون الاحتلال تسعة وعشرين عامًا، ومحمد (38 عامًا) المحكوم بالسّجن المؤبد مرتين و(30) عامًا، وإسلام (35 عامًا) والمعتقل منذ عام 2018، والمحكوم بالسجن المؤبد و8 سنوات.
تجلس الحاجة أم ناصر أمام 19 مؤبدًا، أحكام لم تكبح جماح أملها بموعد اللقاء بهم، ولو لمرة واحدة على مائدة إفطار تكحل بها عينيها في لقاء خارج أسوار السجون، بلا عازل زجاجي، يرافق الحزن صوتها بينما تبوح عن جلستها الوحيدة في رمضان بعيدةً عن أبنائها الأسرى "وضعت صورهم كي يلتفت العالم لمعاناة الأسرى وليس معاناتي وحدي، وهي رسالة تجسد ما تعيشه أمهاتهم".
"كل بيت أسير فيه معاناة، لكن معاناة عن معاناة تختلف، حقيقة لا أشعر بطعم شهر رمضان" إضافة لما قالتها، عندما يرفع صوت أذان المغرب تسبق دمعتها لقمة طعام الإفطار الأولى، تأخذها الذكريات إلى الماضي البعيد لتعود منه بصورةٍ، لمراسم الإفطار الجماعي مع أبنائها قبل الانتفاضة الفلسطينية الأولى.
أمل لا ينكسر
تتجسد فلسطين بحكاية أم ناصر والدة الأسرى والشهداء، عاشت الفراق وتجرعت مرارة الغياب القسري، هدم الاحتلال منزلها خمس مرات، لكنها لم تنكسر، تقف شامخة لم تنحنِ لعواصف القهر؛ تنتظر على ضفاف الأمل بموعد اللقاء موقنة أن جسور الحرية يصنعها أبناؤها الذي ستعبر إليه يومًا.
وما زالت ترفع راية التحدي رافضة إظهار انكسارها أمام الاحتلال "لن يقهرني أو يهزني الاحتلال، في كل مرة يعطيني الله إيمانًا وثباتًا وأملي بحدوث صفقة تبادل تحرر أبنائي وبقية الأسرى".
خرج صوتها مختنقًا وهي تقول "أمنيتي أن أجتمع معهم على مائدة واحدة معهم، فقد كانت آخر مرة التم شملنا على مائدة واحدة قبل ثلاثين عامًا، كانوا فيها أطفالًا، ورغم أن لدي أربعة أبناء محررين خارج السجن يحاولون ملء وحدتي مع أبنائهم، لكن في كل يوم ولحظة لا يغيب أبنائي الأسرى عني، ترافقني صورهم في كل المناسبات واللحظات، أمنيتي الوحيدة رؤيتهم خارج السجن."
اللحظة الوحيدة التي اجتمعت فيها أم ناصر مع أبنائها كانت قبل عشر سنوات عندما التقطت صورة مع أبنائها الأسرى الأربعة، وأخضعت الصورة بعد ذلك لتعديل لإضافة ابنيها الآخرين.
رغم حالة الحرمان التي تعيشها، لكن الحاجة أم ناصر تنتزع الفرحة من سجون الاحتلال كلما أرادت هي ذلك، فعقدت قران ابنها الأسير محمد وهو في سجون الاحتلال العام الماضي، واحتفلت عام 2019 باستقبال طفل لابنها نصر عن طريق نطفة مهربة ليضيء شمعة فرحة في قلب جدته ويزهر بين مؤبدات والده الخمسة، وتتوعد الاحتلال بفرحة أخرى "قريبًا، إن شاء الله راح ينجب طفلًا رغمًا عن أنف الاحتلال".
حكاية أم ناصر مع الصور، لم تقتصر في تلك التي كانت على مائدة الإفطار، ولا في صورتها اليتيمة معهم، بل أيضًا عندما أقامت العائلة عرسا لمحمد اختلفت فيه المراسم، فبينما جلست العروس على كرسي جلست بجوارها صورة زوجها محمد، فكانت من أصعب اللحظات على أمه، فتختم "طالما أنني راضية بقضاء ربنا وموقنة أن ربنا سيعوضني أجر هذه التضحية، لا أطلب غير أن يعطيني الله الصحة والقوة لأستقبل أولادي محررين".