يخشى الاحتلال الإسرائيلي التصعيد في القدس وعموم الضفة الغربية، لكنه في ذات الوقت يأخذ بأسباب استفزاز الفلسطينيين ودفعهم إلى الأمام؛ فكيف ينشد الهدوء في النقب، والخضيرة، وبني براك، وتل أبيب..، وهو يومياً يمارس طقوسه في القتل، والاعتقال، ومصادرة الأراضي، والتنكيل بالفلسطينيين؟ فالجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أعلن الشهر الماضي عن أرقام مُفزعة لحصيلة انتهاكات الاحتلال ومستوطنيه بحق الفلسطينيين في العام الماضي 2021، والتي أشارت إلى مقتل نحو 341 فلسطينياً، واعتقال نحو 8 آلاف، والتعرض لنحو 1600 اعتداء من قبل المستوطنين، إضافة لهدم 1058 مبنى ومنشأة فلسطينية، مقابل بناء 12 ألف وحدة استيطانية.
تلك الأرقام المُفزعة يدعمها الاحتلال بغطرسته وإصراره على إنكار حق الفلسطينيين في الوجود في دولة ذات سيادة، بعد توقّف المفاوضات السياسية منذ العام 2014 بسبب تغوّل الاستيطان في عهد بنيامين نتانياهو، وانسحاب ذلك على حكومة اليميني المتطرف نَفتالي بينيت زعيم الحركة الاستيطانية في الضفة الغربية. هذا في وقت تتجاهل فيه بعض الأنظمة العربية، الكيانية الوطنية للفلسطينيين وحقهم في الحرية وتقرير المصير، وتتنكّر فيه أيضاً للمبادرة السعودية، المبادرة العربية للسلام (قمة بيروت 2002)، بمشاركتهم في قمّة النّقَب المحتل في ضيافة وزير خارجية الاحتلال الإسرائيلي يائير لبيد، وبإشراف وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية أنتوني بلينكن.
يتشاطر الاحتلال بتقديم ما يُسمّيه تسهيلات للفلسطينيين، بسماحه لكبار العمر من الضفة الغربية للصلاة في المسجد الأقصى، إضافة لموافقته على عشرة آلاف تصريح عمل للفلسطينيين في غزة، للعمل في فلسطين المحتلة عام 1948، متجاهلاً حصاره المطبق على غزة منذ العام 2007، والذي أنتج كوارث إنسانية فقراً، وبطالة، وتراجعاً في الخدمات الصحية، والتعليمية، ناهيك عمّا صنعته سياسات الاحتلال العدوانية العسكرية لا سيّما في محطاتها الأربع (2008، 2012، 2014، 2021) بإيقاعها آلاف الشهداء والجرحى، ودماراً للبيوت، والبنى التحتية بالطائرات الحربية والمدفعية الثقيلة.
لم يستكفِ الاحتلال، بهذا الكم الهائل من الظلم المتواصل منذ العام 1948، بل لا زال يمارس هوايته في الاستفزاز ونشر القهر بين الشباب الفلسطيني، بالاعتداء على الأطفال، والنساء، وكبار السن المصلين في المسجد الأقصى في ليالي رمضان المبارك، بعد نشره 3 آلاف شرطي في شرقي القدس المحتلة، للتنغيص على حياة ساكنيها بمنعهم من حرية العبادة، والتجول في باب العامود وأبواب القدس العتيقة، في الوقت الذي يتجوّل فيه وزير خارجية الاحتلال يائير لبيد تحت الحراسة في باب العامود والبلدة القديمة، ويوفّر فيه جيش الاحتلال الحماية لرجال دين صهاينة متطرفين، لتدنيس المسجد الأقصى بالاجتماع في باحاته للتحضير والتخطيط لإحياء ما يُسمى عيد الفصح بتقديم القرابين في الفترة ما بين 15 و 21 رمضان الجاري، إيذاناً ببناء هيكلهم المزعوم.
الاحتلال يّجر المشهد إلى أتون النار، ويمهد الطريق لإشعال فتيلها، بقرار سياسي، أحسبه غير متّخذ بعد أو بغباءٍ ممهور بالغطرسة والعنصرية والإرهاب المتأصّل في العقلية الصهيونية، التي لا ترى إلا نفسها.
ثلاثون عاماً من اللهاث وراء السلام والمفاوضات. سبعون عاماً من انتظار عدالة وإنصاف المجتمع الدولي الغربي الذي يحرم الفلسطيني من حقه في التحرير والعودة وتقرير المصير، ويصف نضاله بالإرهاب، ويطارده في كل مكان، ضارباً بالحائط كل مبادئ وأعراف القانون الدولي، وحق الشعوب في الحرية والكرامة؛ في وقت انفضحت فيه سريرتهم ونفاقهم مؤخراً بتزويدهم الأوكرانيين بالسلاح، والسماح للمتطوعين من المدنيين بالقتال معهم، فناصروهم عسكرياً، وإعلامياً، واقتصادياً في مواجهة روسيا الاتحادية، فانكشفت عندهم سياسة المعايير المزدوجة، والتفرقة العنصرية على أساس الدين، والعرق، واللون، وهم الذين صدّعوا رؤوس الشعوب المنكوبة بشعارات الحرية والعدالة والمساواة.
بعد هذه التجربة الطويلة المريرة يُراد للفلسطيني أن يسبح في فراغ، ويُراد له أن يذوي في غياهب التاريخ، ظناً منهم بأن الجيل قد تم السيطرة على عقله ونبضه، ولكن واقع الحال يكذّب مقالتهم؛ فها هو الشباب الفلسطيني في القدس والضفة، وفي الـ 48 وغزة يشكّل وحدة وعي بالذات والهوية الوطنية نحو التمسك بالحقوق حتى التحرير والعودة. وهو الباعث للحراك الجماهيري المقاوم الذي نشهده اليوم على وقع الذاكرة بأحداث حي الشيخ جرّاح، وباب العامود، ومعركة سيف القدس التي أثبتت أن العالم لا يفهم إلا لغة القوة ولا يحترم إلا الأقوياء.
الاحتلال قلق من التصعيد لكنه أسير للغطرسة والساديّة التي جُبل عليها. والولايات المتحدة قلقة من صعود الصين وروسيا وتداعيات الأزمة في أوكرانيا ولكنها أسيرة لفائض القوّة وعشقها التفرّد والهيمنة. والأوروبيون قلقون على مستقبلهم ولكنهم أسرى لواشنطن التي ستدفع فاتورة حسابها مع موسكو من جيب الأوروبيين أنفسهم. والعرب في حيرة من أمرهم، يتخبّطون وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. ولذلك أعتقد أن الشعب الفلسطيني أمام فرصة إن أحسن استثمارها في القدس ومن القدس العنوان الأبرز للأمة، فسيُتاح له المجال لإعادة ترتيب سلم أولويات الإقليم، وسيفرض قضيته وأجندته على طاولة القلقين أجمعين.