عندما تكون الدولة قوية، وذات إمكانات عسكرية هائلة كروسيا مثلا، تجد أعداءها يفكرون ألف مرة قبل العمل ضدها، بل هم يفكرون جيدا في كلماتهم وتصريحاتهم قبل أن ينطقوا بها، وإذا خرجت منهم كلمات كسبق لسان تعبر عن ضميرهم وما يفكرون حقيقةً بادروا إلى النفي والتفسير بلوي أعناق ما نطق لسانهم في غفلة من غفلاتهم البشرية.
خذ مثلا الرئيس الأمريكي جون بايدن الذي صرح وهو في بولندا قبل بضعة أيام بضرورة إخراج بوتين من السلطة. هذا التصريح فسرته الجهات المختلفة على أنه بداية تحول في السياسة الأمريكية بالذهاب في العمل داخل روسيا مع معارضين لإسقاط الرئيس بوتين.
هذا التصريح يقال إنه يمثل واحدة من غفلات بايدن، وفلتة من فلتاته، ومن ثمة ذهبت مستويات قيادية في البيت الأبيض لمعالجة هذه الغفلة فقالت إن التصريح لا يمثل تغييرا في سياسة أمريكا باتجاه الحكم في روسيا، وهو ليس ضد شخص بوتين كرئيس انتخبه شعبه.
هذه المعالجات التي جاءت من جهات أدنى من الرئيس لم تكن كافية في نظر بوتين الذي يتجه نحو صرامة أشد في الحرب بأوكرانيا، وإلى تشدد أكبر في مواجهة أمريكا والغرب، لذا خرج الرئيس جون بايدن بناءً على طلب المخابرات إلى تفسير تصريحه بشكل يطمئن بوتين قبل أن تسوء الأوضاع بشكل كبير، فقال بايدن: " تصريحي لا يحمل تغييرا في السياسة، بل هو تعبير أخلاقي لا سياسي عن الغضب من قتل الناس وتهجيرهم، فقد قلته بعد زيارة لأسرة هجرت من وطنها من أوكرانيا".
كان جون بايدن مضطرا لهذا التفسير أمام الموقف الروسي والنقد الموجه له من داخل أمريكا. بايدن تمسك بتصريحه من الناحية الشكلية، حتى لا يتهم من المعارضين بالضعف والغفلة، وفسره أنه تصريح وجداني انفعالي أخلاقي، نتج عن مشاهد مؤلمة، حتى يتجنب الغضب من بوتين، وما يجر تصريحه من اتهامات لأمريكا. خلاصة القول إن بايدن اعتمد مقولة: الأخلاق غير السياسة في البيت الأبيض. ولكن هذا الاعتماد يقف عند حدود الدول الكبرى، إذن في غيرها تمارس أمريكا ألاعيبها في تغيير الأنظمة بشكل شبه علني، هكذا فعلت في ليبيا ومصر والعراق ودول أمريكا اللاتينية.
وهكذا تثبت هذه الوقائع للعالم العربي وغير العربي، أن القوة هي التي تقرر السياسة، وهي التي تقول هذا مقبول منها وهذا مرفوض، والدول القوية عسكريا وأمنيا تحفظ حدودها ومصالحها، وأمنها، وتكون قادرة على قطع الأيدي الشريرة والألسنة الغافلة. كن قويا تكن حاكما محترما، وكن ضعيفا تكن تحت بساطير جنود عدوك. السياسة لعبة قوة، وهي لعبة مسخرة، هكذا هي حين لا تكون قيم، ولا يكون دين حاكم.