فلسطين أون لاين

​الثانية على مستوى الوطن

بـ"الريشة والألوان".. الأولى على القطاع ترسم لوحة "التفوق"

...
غزة - عبد الرحمن الطهراوي

على بعد أمتار عديدة، وحتى وصلت "فلسطين" إلى باب بيتها الكائن مقابل ميناء غزة، كانت أصوات الزغاريد تصدح في المنطقة من كل حدب وصوب، كيف لا يحدث هذا وابنة الحي "ملك عماد مطر" (الطالبة في مدرسة بشير الريس الثانوية للبنات) تحصل على معدل 99.3%، وتحوز على المركز الأول على قطاع غزة، والثاني على مستوى فلسطين، في الفرع الأدبي.

تحت العمارة، اكتظت سيارات وسائل الإعلام، وعلى السلالم توزعت أكاليل الزهور الخاصة بالمناسبات السعيدة، وعلى باب الشقة كانت أمها تنتظر كل زائرٍ بالزغاريد والدموع معًا، مرددةً دعاء لم يفارقها طوال الوقت: "الله يدخل هالفرحة على كل بيت فلسطيني يا رب".

متوترة لأول مرة

بدت ملك التي اعتادت حضور الكاميرات خلال سنوات عمرها كفنانة تشكيلية شاركت في العديد من المعارض المحلية والدولية، ولأول مرة متوترة جدًا، تتلعثم على لسانها الكلمات وهي تحاول أن تتحدث عن مشاعرها أمام الكاميرات، وللمراسلين الواقفين أمامها، وفي الوقت ذاته، تحاول الرد ما استطاعت على مكالمات المهنئين.

رسالة تحدٍ

تقول الفتاة مطر لـ"فلسطين": "كنت أتوقع أن أكون من الأوائل، لكن عندما سمعت اسمي في المرتبة الثانية لم أصدق نفسي، قفزت من مكاني فرحًا، وبكيت، وشكرت الله"، مؤكدةً أن فرحة النجاح لا يمكن لكل الكلمات وصفها، فهي نتاج جهد وتعب وتركيز من أجل تحقيق الهدف.

ملك التي تفوقت في مجال الرسم من قبل، بدأت تستذكر فترة الدراسة، قبل الامتحانات، في ظل وضع الكهرباء المتأزم داخل قطاع غزة، فتبين: "كل تلك الأيام الصعبة تمر كالبرق في مخيلتي، لأرى نفسي أتصبب عرقًا وأنا أحاول حفظ بعض المعلومات، أو التدقيق في الكلمات المكتوبة داخل الكتب بسبب الإضاءة الخافتة لمصابيح (البطارية)، والحمد لله لقد حاول أهلي توفير كل البدائل من أجل ضمان سير دراستي بالشكل الجيد".

وتوضح: "كنت أذاكر من 6 إلى 8 ساعات يوميًا، وأضع الخطوط تحت ما لا أستوعبه، أو ما تتردد ذاكرتي في استرجاعه مباشرة، وأكرر دراسته من جديد وقت الفجر، أو في ساعات الليل الأخيرة، لضمان رسوخه في ذهني بشكل أكبر"، متقدمةً بالشكر الجزيل من خلال "فلسطين" إلى أمها وأبيها اللذين كانا خير معين وداعم، ليس فقط على مستوى التوجيهي، بل على مستوى الحياة كلها.

في هذه اللحظة تتذكر الفتاة وضع طلبة التوجيهي بغزة، أولئك الذين يعانون أوضاعاً اقتصادية صعبة، ولم تتوفر لديهم البدائل اللازمة لاستكمال دراسة المنهاج، ورغم ذلك نجحوا وحصدوا أروع المعدلات؛ هؤلاء، على حد قولها، هم خير إثبات بأن أهل القطاع قادرون على الحياة ما استطاعوا إليها سبيلًا.

تعب الفرح

ملك، الفنانة المتفوقة، شاركت في العديد من المعارض الفنية في بريطانيا، وتواصلت مع كثير من الفنانين التشكيليين الأجانب خلال دراستها للثانوية العامة، مبديةً مقدرةً عظيمة على الموازنة بين الدراسة وممارسة الهواية، كما يؤكد والدها عماد.

ويقول: "ملك متفوقة منذ زمن بعيد، لقد رفعت رأسي بين كل الناس"، متحدثاً عن دوره كأب في مراجعة الدروس معها، وتهدئة توترها دومًا بنصيحته لها بالتعامل مع "التوجيهي" على أنه عام دراسي عادي بعيدًا عن الضغط والخوف، والابتعاد عن مصادر الإحباط والتثبيط، والاقتناع التام بأن التفوق سيكون حليفًا لكل مجتهد.

ويوضح: "بنجاح ملك، ونجاح كل طلبة القطاع في ظل الوضع الاقتصادي المزري، وأزمة الكهرباء المتفاقمة، نقدم رسالة مفادها أن هذا القطاع المحاصر منذ أكثر من عشر سنوات، لو فُتحت أبوابه أمام المبدعين من شبابه للعمل والدراسة، لحوّلوا غزة إلى أعظم مدينةٍ في العالم".

بعض التعب من كثرة التصوير واللقاءات الصحفية بدت على الأب صاحب الابتسامة الرقيقة، تناديه أم ملك ضاحكةً وهي تقول: "ليت كل التعب تعب فرح"، محفزةً إياه على الاستمرار في الحديث فخرًا بابنتهما المتفوقة.

قلب الأم


الفرحة التي كانت تقفز من عيون أم ملك لم تخفَ على أحد، كل الموجودين اغرورقت عيونهم بالدموع لحظة رأوها تبكي، فيما لم تهدأ وهي تتجول بين ضيوف الفرح هذا بأطباق الحلوى وعلب العصير المعدنية.

تقول: "الحمد لله الذي لم يضيّع تعب ابنتي، الحمد لله على نعمة الفرح، اليوم فقط أستطيع أن أقول إنني أديت رسالتي بحق، وكل تعبي أثناء الدراسة يهون أمام هذا الخبر".

وتشير إلى أن ملك أثناء تقديم الامتحانات لم تكن تُشعر أحدًا بأنها "تقدم امتحانات توجيهي"! كانت واثقةً جدّا مما تكتبه، بل وأكثر من ذلك، كانت ترجع من الامتحان وقد رصدت درجاتها بدقة، حاصرةً أخطاءها القليلة جدًا، دون أن تعيرها أي اهتمام، ذلك كي يتسنى لها الالتفات إلى الامتحان المقبل.

وكأي أم لطالبة في الثانوية العامة، كانت تبذل أم ملك كل ما في وسعها كي تُبقي ابنتها على تواصل كامل مع مذاكرتها، فلم يكن مطلوبًا من الابنة أي شيء سوى أن تدرس، بينما كان قلب الأم يبقى معلقًا معها في القاعة، يدعو الله أن ينور بصيرتها، ويحفّز ذاكرتها لاسترجاع كل ما هو مطلوب كتابته في الورق.

تحتار ملك اليوم بين دراسة الإرشاد النفسي، والفنون الجميلة، في الجامعة، وعلى ما يبدو، فقد ترجح كفة الخيار الثاني، كون الفن جزءًا من حياتها، لا تريد إهماله مع زحمة الحياة مستقبلًا.

وعن ذلك تخبرنا الفتاة: "أتمنى طرح تاريخ فلسطين من خلال لوحاتي، والتضحيات التي بذلناها على طريق مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، ورسالة الصمود التي نحاول كتابتها بدمائنا حتى تصل إلى كل العالم فيستطيع التفريق بحق بين صاحب القضية الضحية، والمعتدي المحتل الذي يحاول تمثيل دورها دومًا".