يوافق اليوم الذكرى الثامنة عشرة لاستشهاد الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة المقاومة الإسلامية حماس، ذلك الرجل القعيد الذي قدّر الله له أن يحيا في أرض فلسطين، فيستنهض همم رجالها ونسائها، ويفجر طاقات أبنائها، ويكون بجسده الضعيف حجَّةً على كل صاحب واجب تباطأ عن تقديم الدعم اللازم لتعزيز صمود القدس وفلسطين، أو تخاذل عن نصرة الشعب الفلسطيني الذين يواجه أعتى احتلال عسكري في التاريخ الحديث.
ففي صبيحة يوم الاثنين الثاني والعشرين من شهر مارس للعام ألفين وأربعة، أقدم طيران الاحتلال الصهيوني على ارتكاب جريمة بشعة باغتيال الشيخ أحمد ياسين، الذي لمع اسمه في أقاصي المعمورة، ليرتقي شهيدًا كما تمنّى في مقولته المشهورة: "أملي أن يرضى الله عني.. وتطهير الأرض الإسلامية من الاغتصاب"، ليُصبح من كان في حياته رمزًا لنضال الشعب الفلسطيني وصلابته في تحدي الاحتلال ومقاومته، أيقونةً للتضحية والفداء دفاعًا عن أرضه السليبة، ومقدساته المباركة.
سيرة الشيخ الشهيد هي أسمى من أن تُسَطِّرها مقالة هنا أو كلمات رثاء هناك، فهي صفحات مشرقة من سيرة النضال الفلسطيني المتواصل منذ قرن مضى من الزمن، وهي تعبر في كثير من الأحيان عن مواقف الشعب الفلسطيني، فقد عبّر الشيخ أكثر من مرة عن موقف الفلسطينيين من اليهود كأتباع ديانة، مؤكدًّا أننا كفلسطينيين لا نعادي الصهاينة كونهم يهودًا، وإنما "نعاديهم لأنهم اغتصبوا أرضنا، وشرّدوا شعبنا"، إضافة إلى تحذيره من أهدافهم الدنيئة بهدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم مكانه، وفي أحد لقاءات الشيخ التي نشرتها صحيفة يديعوت أحرنوت العبرية، صرح قائلًا: "إن الحل هو إقامة دولة إسلامية على كامل التراب الفلسطيني، يعيش فيها العرب واليهود والمسيحيون تحت قيادة المسلمين".
كان يتمتع الشيخ بشدّة الذكاء وقوة الذاكرة، وروى مُعِد دراسة "ثقافة الإمام الشهيد أحمد ياسين" بأن الشيخ رحمه الله اجتمع في إحدى ليالي عام 1980م بأكثر من مائة وعشرين شابًّا في مسجد المجمع الإسلامي، وبعد أن عرّف كلٌّ مهم باسمه وطبيعة عمله وحالته الاجتماعية، لم يستطع أحد منهم حصر جميع الأسماء سوى الشيخ الذي ذكر اسم كل واحد منهم، وطبيعة عمله، وحالته الاجتماعية، في دلالة على نباهته ودقة الملاحظة التي كان يتمتع بها الشيخ الياسين، وهي سمة ساعدته كثيرًا في تلافي مكر وسائل إعلام الاحتلال، فخلال فترة اعتقاله الأولى سنة 1987 أدت إحدى عمليات المقاومة إلى قتل واحد وعشرين جنديًّا صهيونيًّا، فحاولت صحافة الكيان انتزاع تصريحات من الشيخ باستنكار العملية بهدف إظهاره كرافض للنضال الفلسطيني، أو تأييد العملية بهدف إظهار الفلسطينيين سفّاكين للدماء وبالتالي إضعاف التعاطف العالمي مع قضيتهم العادلة، فما كان من الشيخ إلا أن صرّح بأنه "حزين لأن سفك الدماء لم ينتهِ بعد"، وهي عبارة ثورية تحتمل أكثر من معنى وتدلل على نباهة الشيخ في إلجام صحافة الاحتلال.
نجح الشيخ في تعزيز العلاقات السياسية لحركة حماس بشكل كبير خلال جولته الخارجية عام 1998م، وهي الجولة التي جاءت بعد الإفراج عنه من سجون الاحتلال عقب عملية الاغتيال الفاشلة التي تعرّض لها خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس، حيث ذكر مؤلف كتاب "شذى الرياحين من سيرة واستشهاد الشيخ أحمد ياسين" أن الشيخ نجح في تحشيد جماهير الأمة العربية والإسلامية لدعم النضال الفلسطيني، وأثمرت جولته آنذاك عن جمع أكثر من خمسين مليون دولار لصالح الفلسطينيين، وقد أثارت تلك الجولة غضب حكومة الاحتلال التي أطلقت إثر نجاح الحملة مطالبات دولية بحرمان الشيخ من العودة إلى غزة دون جدوى.
لطالما كانت رمزية الشيخ وتحريضه الفلسطينيين على مقاومة الاحتلال، ومشاركته في تشكيل الخلايا العسكرية، سببًا في التضييق عليه وملاحقته واعتقاله أكثر من مرة، ثم محاولة اغتياله سنة 2003م بطائرة F16، ثم استهدافه بثلاثة صواريخ من مروحيات صهيونية بعد أدائه صلاة الفجر، وبإشراف مباشر من رئيس وزراء الاحتلال آرئيل شارون، ليرتقي شهيدًا فوق كرسيه المتحرك برفقة عدد من مرافقيه، في مجزرة هزّت فلسطين غضبًا ضد جرائم الاحتلال.
واليوم ونحن نستذكر سيرة الشيخ الشهيد الذي بدأ مسيرة البناء بمجموعة دعوية، وأخرى جهادية يستنهض بها الشعب الفلسطيني لمقارعة الاحتلال، نشاهد بأمّ أعيننا تركته الجهادية، في جيش بلغت أعداده عشرات الألوف، وهم يعدون العدة لتحرير الأرض والقدس التي بشّر الشيخ بتحريرها ولو بعد حين، ونرى أيضًا تخطيط وإعداد أتباعه المقاوِمين لتحرير كافة الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال رغمًا عن إرادة المحتل، وهو الذي بشر الشعب الفلسطينيين بقوله في أحد الأيام: "بدنا أولادنا يروحوا غصبًا عنهم" يقصد المحتلين، وها هم أتباع الشيخ ينجحون قبل عقد من الزمان بتحرير أكثر من ألف أسير فلسطيني، ويعدون العدة لعقد صفقة تبادل جديدة ينال من خلالها آلاف الأسرى الفلسطينيين حريتهم رُغمًا عن إرادة الاحتلال.