حنت رئيسة شبات ظهرها وهي تزيل الأعشاب الضارة من بين سنابل القمح الخضراء في أرضها التي تقع على شارع "جكر" على السياج الفاصل شمال شرق بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة، على حين كانت بناتها يقطفن أوراق الخبيزة لإعداد وجبة الغداء على موقد الحطب.
بعد ساعتين من العمل أحست رئيسة بالتعب فأخذت قسطا من الراحة، وأشعلت في موقد صغير النار بالعشب والأغصان الجافة لتصنع الشاي، وتعد وجبة خفيفة من السندويشات المحشوة بالزعتر المخلوط بزيت الزيتون الذي أنتجته أرضها.
لم تبرح رئيسة العمل في الأرض منذ أربعين عامًا، فقد كانت رفيقة أبيها في بذر البذور وعند الحصيدة، وكتفًا بكتف مع زوجها، وحتى بعدما شبّ أبناؤها فالسيدة الخمسينية رفيقتهم الدائمة في أعمال الزراعة مع أحفادها.
تشاركها أعمال التعشيب والفلاحة والقطيف بناتها الثلاث، وزوجة ابنها، إذ يقصدن الأرض من الساعة السادسة صباحًا وحتى 11 ظهرًا، إذ يعدن أدراجهن إلى البيت لاستقبال الأطفال من المدرسة، وإعداد وجبة الغداء وإتمام شؤون البيت.
"الزراعة هي حياتي" هكذا ردّت رئيسة حينما سألناها عمّا تعنيه الأرض لها، مُضيفة أنّ انقطاعها عن الوصول إلى الأرض لا يكون إلا "للشديد القوي"، حينها تبقى في حالة قلق ولا تنفك عن الاتصال بأبنائها والاطمئنان إليهم خشية أن يصيبهم مكروه من جنود وقناصة الاحتلال المتوارين خلف ثكناتهم العسكرية.
تقطع رئيسة مسافة 800 متر سيرًا على الأقدام لتصل إلى الأرض البالغة مساحتها 20 دونمًا، ومثل هذه المسافة تبعد الأرض عن السياج الفاصل.
وفي اليوم العالمي للمرأة، أقصى ما تتمناه رئيسة كما غيرها من المزارعات، وإيقاف انتهاكات الاحتلال المستمرة بحق أرضها، وأن تحظى بالأمان في حياتها، وحياة أبنائها أيضًا.
تقول رئيسة؛ إنها اعتادت الاستيقاظ فجرًًا إذ تجهز وجبة الغداء وتحملها معها إلى الأرض وتطهوها على موقد الحطب، في حين تلحق بها بناتها بعد عودتهنّ من الجامعة، وبعد تناولهم لوجبة الغداء يعودون إلى العمل في الثانية والنصف ظهرًا.
مواقف لا تنسى
ورغم صعوبة العمل في فصل الصيف بسبب ارتفاع درجة الحرارة فإن العمل في أشهره أيسر من الشتاء، بالنظر إلى الحالة الأمنية على السياج الفاصل، "ففي الصيف تطول ساعات النهار وهذا يمنحنا وقتًا أطول لإنجاز أعمالنا".
وهو ما تؤكده الابنة لمياء، التي تحرص على المشاركة هذه الأيام في تعشيب الأرض وهي عملية منهكة تتطلب أيدي عاملة إزالة العشب الذي أنبتته الأرض في فصل الشتاء تمهيدًا لحراثتها وبذرها بالمحاصيل موسمية مثل: الكوسى والبطيخ وغيرها.
تذكر لمياء (27 عامًا) موقفًا حدث معها في أحد أيام العمل الزراعية الشاقة، قائلة: "قبل سنوات جاء شهر رمضان في أشهر الحر الشديد، وطلب منا أبي مساعدته في حصاد محصول البطيخ حتى لا تفسده الشمس بعد اكتمال نضجه، لم نتردد للحظة، بلّلنا المناشف بالماء ووضعناها على رؤوسنا وفوق القبعة لتخفف علينا حرارة الشمس اللاهبة وقت الظهيرة".
تضيف لمياء: "يوم لا أنساه في حياتي فقد أنهكنا التعب (...) كنا نغني لنخفف على أنفسنا مشقة العمل. ويومها لم تستطِع أمي إعداد وجبة الإفطار، فاستعانت بخالتي التي أسعفتنا وأعدت لنا الطعام".
بعد الانتهاء من التعشيب وحراثة الأرض يشارك جميع أفراد الأسرة في عمليات البذر، يحمل كل واحد منهم فأسًا يضرب بها الأرض ليصنع حفرة صغيرة لأجل ذلك بجانب رشاش الماء "التفتوف"، ومن حولهن يجلس الأحفاد يتسابقون للمساعدة في إيصال المحاريث الصغيرة أو دلو البذور.
وباتت لدى الابنة معرفة في المزروعات، تعرف دلالات علامات ظهور المرض على أشجار الزيتون، ومعنى تبدل ألوان أوراق المحاصيل الموسمية وما يتطلب من أنواع أسمدة ومبيدات لعلاجها.
للزراعة ثمن
ورغم خطورة المكان الذي تقع فيه الأرض، إلا أن رهف (9 أعوام) تستمتع بمرافقة جدتها إلى الأرض في أيام الإجازات.
وموسم جني الزيتون هو من أسعد الأوقات التي تفضلها "رهف"، إذ تتجلى مهمتها في التقاط حبات الزيتون وجمعها في دلو صغير، طمعًا بمكافأة الجدة.
لا تنسى رهف موقفًا حدث في أحد أيام العدوان الإسرائيلي، يومها كانت برفقة أمها وجدتها وقت بدأت القذائف المدفعية تنهال على الأراضي المفتوحة من كل حدب وصوت، "يومها خبأتني جدتي تحت عربة الكارو".
ووفق تقرير أصدره مركز الميزان لحقوق الإنسان، فإن 35% من النساء المزارعات في المناطق الحدودية لقطاع غزة؛ تعرضن لإطلاق نار مباشر من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي المتمركزة عند السياج الفاصل، أو خلال التوغلات.
ولشدة ارتباط الجدة بالأرض لا تطيب لها الأكلات التراثية إلا أن صنعتها داخل الأرض وعلى نار الحطب، بما في ذلك كعك العيد الذي تعده على فرن طين يتوسط الحقل.
وفي خضم انهماكها في الزراعة، شمرت رئيسة عن ساعدها لتكشف عن ندب عملية جراحية أجرتها لإزالة تليف أصاب أوتار اليد بعدما أصبحت لا تستطيع ثني أصابعها، نتيجة العمل لساعات وسنوات طويلة في الزراعة، وتحتاج إلى عملية أخرى في كفها اليسرى.
الأرض بالنسبة لرئيسة ترد لها روحها مجرد أن تجلس فيها بين الأشجار الخضراء، وهي مثال للمرأة الفلسطينية المتشبثة في أرضها رغم كلّ الظروف، والاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة.