(1)
لا يزال الافتراق في الساحة الوطنية الفلسطينية سيد الموقف، إلا قليلًا من الالتقاء بين القوى والفصائل الوطنية، أو ما يكون من التوافقات اللحظية العابرة بينها، التي لم ينبنِ أي منها على برنامج محدد الخطوات والإجراءات والمراحل، هذه الحقيقة لا ينبغي القفز عنها أو تجاهلها، إن أردنا بداية صحيحة لانطلاقة وطنية جديدة وواعدة.
وقد تجاوزت الوحدة الوطنية اليوم أن تكون واجبًا فقط، بل أصبحت ضرورة مُلجئة، وقد وقعت القضية الفلسطينية في تجاذب تيارات حادة في المسرح الدولي، وتعارك محاور إقليمية وصل الخلاف بين أقطابها إلى مراحل مؤسفة من الصراعات والقطيعة، وهذا ما جعل كل قطب ينزع ما استطاع من مساحة في الساحة الفلسطينية ليتدثر بما استطاع من هذه القضية العادلة؛ فتتعزز بها مواقفه أو تُبيّض بها صفحته.
وعلى هذا فقد سقطت في رحى هذه الصراعات والتجاذبات قوى وطنية انحازت إلى هذا الطرف وأخرى منها انحازت إلى نقيضه؛ فانتقلت صراعات خارجية إلى الداخل في صورة تجاذبات حادة بين تيارات وطنية، وصل منها إلى حد الاحتراب بين الأشقاء، وأخرى أوجدت اصطفافات ليس منها _بكل تأكيد_ شيئًا لمصلحة القضية الفلسطينية، بل على العكس كانت فرصة الاحتلال ليخلق وقائع على الأرض تبعد احتمالية نجاح أي فرصة لقيام دولة فلسطينية كاملة السيادة، ولو على الحد الأدنى من الحد الأدنى للحقوق الفلسطينية.
(2)
غير أنّ خطاب السيد إسماعيل هنية في أول إطلالة رسمية له منذ تولي موقعه الجديد قائدًا عامًّا لحركة المقاومة الإسلامية حماس، خلفًا للقائد الأستاذ خالد مشعل، قد جاء (الخطاب) يطرق جدار الخزان بيد، وباليد الأخرى يطرق باب الأمل، نحو وحدة وطنية حقيقية تتجاوز الشعارات الجوفاء، ووحدة المواقف اللحظية العابرة، لتترسخ هذه المرة على أركان قوية، وقواعد راسية متينة؛ فتُبنى على برنامج سياسي جامع، يقوم في أساسه على القواسم المشتركة للقوى الوطنية كافة، ومكونات الشعب الفلسطيني، وتياراته، دون إسقاط أيّ حق من الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، وإن كان يجوز تأجيل الحديث عن بعضها إلى مراحل أخرى، وأيضًا يُعاد الاعتبار للمؤسسات السيادية؛ فتحاط بسياج وحدوي وطني مستقل، لا ينظر إلا بمنظار المصالح العليا للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة في التحرير والعودة وتقرير المصير.
وعلى هذا الأساس يُمكن أن تتكتل "جبهة إنقاذ وطني" عريضة، وعميقة، ومتجذرة، تنتهي بها سنوات خدّاعات وقع كلٌّ فيها في عنت تيه سياسي مضنٍ، اختلطت فيه المفاهيم، وانقلبت الحقائق، حتى بدا في أحايين كثيرة منه العدو كأنه أقرب إلى بعضنا من رفيق الثورة وشريك المسير الوطني، وقد تباهى بعض بتعاونه الأمني مع الاحتلال، وجعله اعتبارًا مقدسًا.
(3)
فحماس اليوم بهذا الخطاب هي انعكاس لتطور حقيقي في الجبهة الوطنية الفلسطينية بكل قواها وتياراتها، وقد حملت بخطابها هذا معاني كثيرة، ومضامين هامة، يمكن تكثيفها في أنّها غادرت السلبية والانتظار العدمي تجاه المواقف التي تمس بأي شكل القضية الفلسطينية، وأنّها أيضًا تحررت من الارتهان لعقد الماضي، وتجاوزت تعقيدات الحاضر نحو مستقبل واعد يأخذ في الحسبان الخروج من شرنقة الحزبية الضيقة، أو الانقياد لغير مصالحنا الوطنية التي توجب الانحياز التام إليها.
فلم يأت الخطاب مرتجلًا بل قراءة لما أعد عبر مؤسسات الحركة الرسمية، ليكون أحد أدبياتها المعتمدة.
وقد تحدثت فيه حماس بلغة سياسية رصينة، توازن بين المصالح المرسلة بمعايير وطنية متجردة من الأنا، وتسبر المواقف لتصل إلى حقيقة ما يمكن أن تفضي أو تؤول إليه، وتحسن ترتيب الأولويات وما يمكن لكل أولوية أن تحقق من إستراتيجيات.
فهو خطاب سياسي وطني تجلت فيه معاني الوثيقة السياسية والمبادئ العامة التي أصدرتها الحركة مع نهاية دورتها القيادية السابقة، لتفتتح به هذه الدروة القيادية الواعدة نحو فضاءات الوطن بكل تراكيبه، ومكوناته، وألوانه، وبما به من تنوع ثقافي أو اختلاف في الرؤى السياسية.
وكان من اللافت وقد وجدنا في الخطاب كل معاني التنوع الوطني أن كان الحضور كذلك، وقد تداعى للاستماع إليه كل القوى الوطنية والإسلامية وأذرع المقاومة، والمؤسسات الرسمية والأهلية، وكذلك صناع الرأي من كل الاتجاهات كُتّاب ومحللون وإعلاميون وخطباء ورجال دين (مسلمون ومسيحيون)، ونقابيون (مهنيون وعلميون)، وأكاديميون.
أما ما كان موجهًا منه إلى الخارج العربي والإسلامي فقد تلخص بالشكر والعرفان لكل جهد قُدم لمصلحة الشعب الفلسطيني، وموقف خدم قضيته العادلة.
لكن إن اختلفتم فيما بينكم في مواقف؛ فتعالوا صفًّا إلى القضية التي أجمعتم على عدالتها، وأن اتجهوا بقلوبكم إلى قبلتكم الأولى، وإن انشغلتم بغيرها فلا تشغلونا عنها، أو تدخلوا أيًّا منا في مُدّخلات ضيقة؛ فإنكم بذلك تشتتونا في سبل توهن عزيمتنا وتُذهب ريحنا.
(4)
وبملخص القول: إن الخطاب _بكل تأكيد_ يصلح ديباجة بين يدي وثيقة برنامج وطني جامع أو أرضية لمشروع وحدوي، تتكتل به جبهة وطنية عريضة، يُمكن بها إعادة تفعيل أو بناء مؤسسات الشعب الفلسطيني، بما يحقق أهدافه وتطلعاته إلى الحرية والعودة وتقرير المصير، وتأكيد العلاقة المنفتحة مع الأمة العربية والإسلامية وأحرار العالم على أساس دعم وإسناد قضيتنا العادلة، دون إدخالنا في أيٍّ من الاختلافات أو الخلافات البينية لها.
فإنّه بهذا لجدير أن يكون الخطاب تاريخيًا؛ إذا ما استطاعت القوى الفلسطينية أن تفتح به فصلًا جديدًا من فصول العمل السياسي الوطني.