"كرٌ وفر" هي حياة المواطن علي الجهالين من النقب المحتل، فمنذ عام 2006م لم يشعر بالاستقرار لحظةً، حتى إنه ترك مسقط رأسه البقيعة واشترى أرضاً في مناطق أخرى بالداخل المحتل هرباً من الهدم المتكرر، ولكن النتيجة واحدة. لاحقه الاحتلال حيثما رحل وهدم منزله مراراً فعاد إلى قريته مصمماً على عدم الخروج منها مهما كلفه ذلك من ثمن.
ولم تكن مباغتة قوات الاحتلال الإسرائيلي لـ"الجهالين" في الثاني من الشهر الجاري وهدم بيوته الثلاثة وحظائر الماشية والساحة التي يجلس فيها مع الرجال "الشق" وكل ما يملكه، هي المرة الأولى، بل هي استمرار لسلسلة من جرائم الهدم المتتالية بحقه وحق عائلته منذ 16 عاماً خلت.
يسكن الجهالين قرية البقيعة القريبة من البحر الميت، يعاني ومواطنو القرية الستمئة محاولات مستميتة لتهجيرهم من أرضهم وضمها لمستوطنة "معاليه أدوميم".
في المرة الأولى في عام 2006م هدم الاحتلال ستة بيوت له وجرّف كرم الزيتون الخاص به، ومسجداً من مساجد القرية، وبعد ثمانية شهور من الهدم أعاد الجهالين بناء بيته، لكن الاحتلال أعاد هدمه!
لم يجد الجهالين أمامه سوى الرحيل لمنطقة "العوجا" قرب أريحا، ومكث فيها عاميْن إلى أن باغته جيش الاحتلال وهدم منزله أيضاً.
لجأ الجهالين لاستئجار منزل، لكنه لم يطق تكاليف الإيجار؛ فعائلته كبيرة "13 فرداً"، ومصاريفها كثيرة، بجانب أن الإيجار مكلف جداً (2500 شيقل إيجار وقرابة ألفيْ شكل كهرباء وماء)، وهو ما ليس له حيلة به لكونه يعمل في رعي الأغنام ودخله محدود.
يقول الجهالين: "لدي عدة أبناء في المدرسة يحتاجون لمصاريف، فهل أدفع كل ما أملك للإيجار أم أوفر الطعام والشراب لأبنائي؟!".
مداولات فارغة
لم يكن أمام الجهالين من خيار سوى أنْ يعيد البناء في البقيعة، فقام ببناء ثلاثة بيوت من الصفيح له ولأبنائه، وحظائر لأغنامه، ولم يمضِ الكثير من الوقت حتى وصله إخطار بالهدم، فلجأ لمعالجة الأمر قضائيًّا.
في حين أن انتشار وباء كورونا أوقف التقاضي في القضية، إلى أنْ عادوا مؤخراً للاستدعاءات المتكررة، فكان يقضي الجهالين جل وقته في أروقة المحاكم، وكان مطلب الاحتلال هو أن يترك المكان نهائياً وهو ما كان يرفضه.
فما كان من سلطات الاحتلال إلا أنْ باغتته بقوة كبيرة من الجيش قوامها 150 مجندًا وعدد كبير من الآليات وطائرة مسيرة تراقب الأوضاع من أعلى، وشرعوا فوراً بهدم المنازل المملوكة لهم، "رجوناهم أنْ يتركوا لنا فقط تنكات الماء لنشرب، فما كان منهم إلا أنْ بدؤوا بتدميرها أولاً إمعاناً في إذلالنا".
وحتى خلايا الطاقة الشمسية لم تسلم منهم، "فلما خشوا أنْ تُصاب آلياتهم بـ"ماس كهربي" كسروها بأيديهم، لا أدري لماذا هذا الإرهاب كله مع أن بيوتي من الصفيح لا تحتاج لهذا الحشد والآليات، لقد أرهبوا النساء والأطفال".
توقفت الحياة
ومنذ هدم الاحتلال البيوت وعائلة الجهالين تشعر بأن الحياة قد توقفت، فلا يذهبون للعمل أو المدارس من جراء الصدمة النفسية التي أصابتهم بعد أنْ باتوا بالعراء دون ذنب سوى أنهم قرروا الصمود في أرضهم التي ورثوها أباً عن جد.
ومن ضمن ما هدمه الاحتلال بيتاً بناه الجهالين لابنه البكر "فايز" (28 عاماً) حيث كان ينوي تزويجه، لكن الاحتلال قتل حلمه في مهده، "ما حدث بحقنا هو استفزاز وتطهير عرقي، لقد جرفوا كل شيء أجهزتنا الكهربائية، وكل ما نملك، لم نخرج إلا بملابسنا التي كنا نرتديها، يريدون محونا من الوجود".
ويشير الجهالين إلى أن الاحتلال يمنع مواطني البقيعة من بيع وشراء الأراضي ويضيق عليهم كل سبل العيش، فلا خدمات ولا ماء ولا كهرباء، "نشتري المياه بالكوب، ونعتمد على الطاقة الشمسية للإنارة، وبرغم الحياة المريرة التي نعيشها فإننا لا نسلم من اعتداءاتهم، فكنا نستيقظ من النوم على صوتهم وهم في منتصف بيوتنا دون سابق إنذار".
وتعاني قرية البقيعة ظروفًا معيشية صعبة في ظل انعدام البنى التحتية وإمدادات الماء والكهرباء، والملاحقات المستمرة لأهلها.
وتستهدف سلطات الاحتلال الإسرائيلي سكان المنطقة، أسوة بقرى النقب الأخرى التي تواجه هجمة شرسة لترحيلها واقتلاعها، من خلال التضييق على الأهالي ودفعهم لترك أراضيهم، وكذلك تجريفها تمهيدا للاستيلاء عليها من قبل ما يسمى بـ "الصندوق الدائم لـ(إسرائيل)".

