"هل يمكن أن تفكوا قيدي من السرير؟ أشعر بآلام شديدة".. تلك الكلمات التي كانت ترددها الأسيرة أنهار الديك (25 عامًا) على مسامع ضابطات سجن الدامون الإسرائيلي اللواتي رفضن طلبها كي تستطيع تحريك جسدها بعد وعكة صحية أصابتها في أثناء حملها بالشهر التاسع.
أعادت أنهار الطلب من السجانات فك قيود رجليها المقيدتين بالسرير والإبقاء على يديها، لكونها تحتاج إلى التحرك والقيام ببعض الأمور الخاصة كأي سيدة تعيش أشهُر الحمل الأخيرة، فلم تجد إلا ضحكًا وتهكمًا من الضابطات.
هنا صرخت أنهار: "أحتاج الذهاب إلى الحمام، أنتن لستن بشراً، عاملوني وفق حقوقي التي أعطاني إياها القانون للمعتقلين".
صرخت المجندة الإسرائيلية على أنهار من شباك الزنزانة الصغير: "ستلِدين هنا وأنتِ مكبلة".
تقول أنهار: "تريد هذه المجندة من خلال صراخها المتكرر تحطيمي نفسيًا، وزيادة أوجاعي أكثر، وبناءً على ذلك توقفت عن الطلب منها إعطائي بعض الراحة، وحاولت النوم هربًا من الألم، لكنني لم أستطع النجاح فيه، خصوصًا أنني أعيش الأيام الأخيرة من حملي، وقد اقترب موعد المخاض".
حياة أنهار
"كانت الساعة تشير إلى الثالثة فجرًا، حين طرق عدد من جنود الاحتلال منزل عائلتي في كفر نعمة، وهي قرية فلسطينية تقع في محافظة رام الله والبيرة وسط الضفة الغربية، واعتقلوا ابن شقيقي، وكان عمره 11 عامًا، وقيدوا يديه وأغمضوا عينيه".. تلك المشاهد التي تذكرها أنهار لانتهاكات جنود الاحتلال لقريتها قبل زواجها.
تربَّت أنهار على مشاهد اعتقال جيش الاحتلال لأفراد من عائلتها، واقتحامات عند ساعات الفجر الأولى لمنزلها في القرية، وإطلاق النار بعشوائية، وإثارة الرعب في حياتها إلى جانب شقيقاتها والأطفال الموجودين في المنزل.
تلك المشاهد بقيت حاضرة في ذهن أنهار، ولم تستطع نسيانها، فالاعتقالات التي كانت تمارسها سلطات الاحتلال بحق الأطفال والنساء، بقيت تشاهدها على مدار سنوات طفولتها وحتى التحاقها في المرحلة الجامعية.
في عام 2019 تزوجت أنهار من الشاب ثائر حجة، وهو ابن قريتها، وانتقلت معه إلى منزلهما الجديد، وأنجبت منه جوليا، ثم عملت ممرضةً في إحدى مستشفيات رام الله، وعاشت ضمن حياة أسرية مستقرة.
لحظات الاعتقال
"توقفي وإلا سأطلق النار على رأسك"، كانت كلمات أحد جنود الاحتلال، حين صرخوا على أنهار خلال وجودها بمنطقة زراعية وهي تمارس هوايتها في قراءة أحد الكتب.
تتحدث أنهار عن ذلك اليوم الموافق للثامن من آذار/ مارس 2021، وتقول: "انهالوا على جميع أنحاء جسدي ضربًا بالأسلحة، وسقطتُ على الأرض، وبدأت الدماء تسيل من وجهي ورأسي".
"سحبوني إلى الجيب العسكري والدماء تسيل مني، مع توجيه تهديد بالقتل وإطلاق النار على رأسي، أنا لا أعلم الأسباب التي جعلتهم كالمجانين، ويتصرفون معي كأني فريسة وقعت بين أيديهم"، والحديث لأنهار.
توقف الزمن لبرهة، صرخت السيدة الفلسطينية في الجنود: "أنا حامل توقفوا عن ضربي". لم يأخذ الجنود بحديث أنهار، وخلال نقلها بالجيب العسكري إلى سجن هشارون الإسرائيلي، زادوا من الاعتداء عليها بالضرب من جديد والدماء تسيل منها.
وصلت أنهار إلى السجن وما زالت الدماء تسيل من وجهها، وتشعر بآلام في بقية جسدها، لتبدأ مرحلة جديدة لم تعرفها خلال حياتها الماضية، وهي حياة التحقيق والاعتقال.
عادت أنهار إلى الصراخ من جديد داخل السجن أمام المحققين: "أنا حامل"؛ وكان في داخلها تريد الاطمئنان على حملها الذي مضى عليه ثلاثة أشهر. هنا قررت إدارة السجن نقل الشابة إلى المستشفى لفحصها والتأكد من صحة حديثها، ليتبين أنها حامل بالفعل، ولكن لم يكن اكتشاف حملها سببًا لتخفيف إجراءات التحقيق معها.
اقتاد الجنود أنهار إلى السجن مجددًا، ووُضِعت في زنزانة صغيرة جدًا، وبدأ التحقيق معها، ووُجِّه إليها اتهام تنفيذ عملية طعن، دون تقديم أي دليل يؤكد صحة الاتهامات الموجهة إليها.
على مدار 30 يومًا كاملًا، كانت هي مدة التحقيق مع الفلسطينية أنهار في الزنزانة الضيقة، وخلالها استخدم المحققون أساليب الترهيب، بدءًا من تهديدها بقتلها هي وجنينها.
في تلك المرحلة الصعبة من حياتها واجهت أنهار حياة نفسية صعبة، جعلتها تصل إلى مرحلة ما يعرف بـ "اكتئاب الحمل".
حياة السجن
أنهت الشابة أنهار مرحلة التحقيق التي استمرت 12يومًا، وانتقلت إلى العيش مع الأسيرات الفلسطينيات في سجن الدامون القابع على جبل الكرمل في الداخل الفلسطيني المحتل.
في الأيام الأولى كانت خائفة ويرافقها ارتجاف دائم، ولم تكن تصدق أنها خرجت من أسئلة المحققين، وتهديداتهم لهم، وحرمانها النوم، وكانت تلتفت حولها بين الفينة والأخرى.
بعد فترة بدأت الأم الفلسطينية تتعافى من مرحلة التحقيق، خصوصًا مع وجود الأسيرات بقربها، إذ عملن على تخفيف آثار ما عاشته خلال تلك الأيام. ولم تمضِ أيام طويلة على خروج أنهار من التحقيق، حتى تفاجأت هي وبقية الأسيرات، عند الساعة الثانية فجرًا، باقتحام قوة خاصة إسرائيلية السجن.
في هذه اللحظات، تشبثت الأسيرة الفلسطينية بالباب مع الصراخ المستمر، نتيجة الخوف من قتل جنينها إذا ما وصلت إليه القوة المقتحِمة، أو أطلقت أي نوع من الغاز المسيل للدموع.
جاءت الحرية
مع كل يوم في السجن كان موعد المخاض يقترب، وحالة الخوف على الجنين تتضاعف، خصوصًا مع صراخ المجندات المتواصل في وجهها أنها ستلِد في السجن.
تسببت تلك المخاوف في زيادة "اكتئاب الحمل" عند أنهار، وشبح التفكير بلحظات وجودها على سرير الولادة وهي مقيدة، فبدأت الممرضة الفلسطينية في كتابة رسالة إنسانية إلى العالم الخارجي، ونُشرت 25 أغسطس/ آب 2021.
"شو أعمل إذا ولدت بعيد عنكم وتكلبشت وأنا أولول وانتو عارفين شو الولادة القيصرية بره وكيف بالسجن وأنا مكلبشة لحالي.. آخ آخ".. كانت هذه أبرز جملة في رسالة أنهار، حتى انتشرت كالنار في الهشيم وسط الشارع الفلسطيني.
في الخارج، تفاعلت المؤسسات الحقوقية مع رسالة أنهار، وبدأت تتشكل حالة من الرأي العام، وهنا قررت سلطات الاحتلال الإسرائيلية، في سبتمبر 2021، إخلاء سبيل "الديك" بعد دفع غرامة تقدر بنحو 12500 دولار أمريكي، وإجبارها على قضاء عقوبة السجن المنزلي في بيتها.
خرجت أنهار وهي غير مصدقة أنها بعد كل تلك المعاناة ستضع جنينها خارج السجن، وبعد ثمانية أيام أنجبت ابنها علاء وهي حرة بعيدًا عن السجن وصراخ المجندات.
وعلى الرغم من إنجاب أنهار لعلاء خارج السجن، وتحررها، فإنها لا تزال تعاني مضاعفات صحية في الحوض بسبب تقييدها لمدة طويلة، وخلال وجودها في التحقيق، إضافة إلى منعها من تجاوز حدود منزلها، حتى قرار جديد تنتظره من المحاكم الإسرائيلية.