اقتربت الأم من ابنها، في ممر الخروج بعد انتهاء جلسة محاكمة في محكمة الاحتلال، تقابل الاثنان لأول مرة بعد عامٍ ونصف خارج السجن، لم يفصل بينهما "زجاج عازل"، في لحظةٍ بلغ الشوق أشُدَّه وكانت أمام فرصة تروي بها ظمأها بمعانقة ابنها، فتمردت على قرارات الاحتلال واستجابت لنداء "الأمومة" واحتضنت ابنها الأسير محمد أبو غنام.
لم يرق للجنود رؤية مشهد عناق أم فلسطينية ابنها الأسير، فأبعدوهما عن بعضهما، وحينما حاولت احتضان ابنها مرة أخرى ونجحت في ذلك، انهالوا عليهما بالضرب، وأبعدوهما كل إلى جهة أخرى. في المشهد.. ظلّت لآخر رمق تمدُّ يدها تحاول إمساك يدَي محمد المكبلتين؛ وهو يحاول أيضًا الاقتراب منها، فيما يحاول السجانون إبعادهما، لحظات تجلّت فيها غطرسة المحتل وقسوته.
سبق المشهد الذي رآه العالم على مواقع التواصل الاجتماعي، قرار تمديد محكمة الاحتلال "المركزية" اعتقال محمد (20 عامًا) من بلدة الطور شرق مدينة القدس المحتلة المعتقل منذ 18 أيلول/ سبتمبر 2020.
حرمان طويل "كان الموقف صعبًا جدًّا، لأنني طلبت من القاضية الإسرائيلية عدة مرات أن تسمح لي بمصافحة ابني الذي لم أستطع مصافحته أو معانقته منذ عام ونصف، لكنها كانت تماطل في كل مرة، وتقول لي: المرة القادمة، وفي جلسة المحاكمة الأخيرة لم ترد علينا"
تزيح منتهى أبو غنام والدة محمد لصحيفة "فلسطين" الستار عن لحظات سبقت معانقتها لابنها: "عندما خرجنا للممر واقترب ابني مني قال لي: "اشتقتلكم كتير" وكأيّ أم لا أستطيع منعه من معانقتي أو قول: "لا" فكنت أمام فرصة لاحتضانه. يزاحم الغضب صوتها "قانونهم يمنعنا ليس لدرجة أن يمنعوني من احتضان ابني، رغم أنني طلبت ذلك عدة مرات من القاضية".
لم يتأخر رد الاحتلال على احتضان الابن، فأصدر إجراءاته العقابية بمنع الأم من زيارتها الأسبوعية لمحمد في سجن "ريمون"، ومنعها من حضور جلسات المحاكمة القادمة، لكنها وبعد احتضان نجلها لم تعد تهتم لقرارات الاحتلال "الآن، ارتحت نفسيًا بعدما احتضنته واشتممت رائحته (..) اللي قهرني كل مرة القاضية ما بتخليني أشوف ابني، ولما مر من جنبي كانت فرصة" كلمات اختلطت بها مشاعر عديدة.
بعد الاعتداء، اقتاد جنود الاحتلال والدة محمد إلى غرفة التحقيق، تنقل ما دار معها على مدار ساعةٍ كاملة "اتّهمني المحققون، بدفع شرطيٍّ وضربه، فقلت للضابط: هذه ردة فعل أيّ أُمٍّ بتشوف ابنها قَرّب عليها.. كيف بدي أقول: لا؛ ثم بدأ حديثه الاستفزازي قائلا: "انتِ تحت حكمنا"، ثم هدّدني بعدم السماح لي بدخول جلسات المحاكمة مرةً أخرى".
ينتظر محمد حكمًا "إسرائيليًا جائرًا" بالسجن أربع سنوات، كما أخبر المحامون والدته بتهمة إلقاء "حجارة وزجاجات مولوتوف" على قوات الاحتلال خلال المواجهات الشعبية في منطقة "الطور" بالقدس، وهي مدة طويلة جدا لا تعرف كيف ستمرُّ عليها، لكنّها أشبه بأربعة مؤبدات.
لم يزد عمره على أربعة عشر عامًا عندما بدأت أولى الملاحقات الإسرائيلية، تستحضر صورة ذلك الاعتقال "اقتحموا البيت الساعة الثالثة فجرًا، وكان لديه امتحانات دراسية، يومها استمر اعتقاله لمدة شهر، ثم اعتقل بعدها عدة مرات، ولأنّ مدرسته كانت بالقرب من المواجهات الشعبية مع الاحتلال كان ذلك يُحفّزه للانخراط فيها وإلقاء الحجارة على قوات الاحتلال".
ست سنوات فصلت بين أول اعتقالاته وآخرها، تَغيَّر فقط عمر محمد، وظلَّ متمسكًا بحب فلسطين والدفاع عن "الطور" ومدينة القدس، أينما كان النداء "الجيش نزل البلد" كانت حجارته جاهزة بيده، تتوقف والدته عند اعتقاله الأخير في سبتمبر/ أيلول 2020: "اقتحمت المنزل قوات إسرائيلية ولم يكن موجودًا، وهددت باعتقال والده إذا لم يُسلّم نفسه في صبيحة اليوم التالي، وعندما علم بذلك قام بتسليم نفسه".
ثلاثون يومًا مكث "محمد" بالزنازين في سجن "مجدّو" خلال اعتقاله الأخير لم تسمع والدته صوته ولم تعرف عنه أيّ شيء، ما زاد ألمها أنّ الاحتلال صادر هاتفها لحظة اعتقاله وفقدت صور ذكرياتها معه، "يومها خرج بوجهٍ مختلف، رأيت صورته عبر جلسة المحاكمة وكان باديًا عليه الإجهاد، والتعب، والتعذيب ثم صُدمت عندما أخبرني أنه تعرّض للضرب وكان يظل مُكبّل الأيدي والأقدام في غرفة باردة، ويقوم السجانون باقتحام الزنزانة في الليل ترافقهم الكلاب، ويعتدون عليه بالضرب، لدرجة أنه بقي 56 يومًا بلا استحمام".
عادت الأم إلى منزلها، ارتكزت على ظهر الكرسي عاقدة يديها أمام وجهها، تُعيد تحريك المشهد في عقلها، لتجده يتحرك بشاشة الهاتف أيضًا حينما تصفحت مواقع التواصل لتجده يبث عبر كل الصفحات الإخبارية على مواقع التواصل تفاعل رواده معها وألقوا باللعنات على الاحتلال.
"تفاجأت بانتشار الفيديو، لم أتوقع أن يكون مُصوّرًا، وبقيت أشاهده عدّة مرات وكان دعم الناس لي بمنزلة انتصار لقضية محمد، وأنّ الجميعَ أصبح يعرف به لأنه تربّى على حب فلسطين والدفاع عنها ونصرتها والآن يدفع ثمن ذلك" تُعلق.
رغم طول المسافة وبُعد سجن "ريمون" فإنّ والدته كانت تخرج الساعة الرابعة والنصف فجرًا وتعود الثامنة مساءً، ولا تتأخر عن زيارة ابنها، لم يمنعها برد ولا حر عن زيارته، تتحمّل مشقة الطريق وإجراءات الاحتلال لأجله، لكنها باتت محرومة اليوم من زيارته بعد معانقتها له، تسمع صوتها المقهور "الزيارة هي حلقة التواصل الوحيدة بيننا والآن حُرمت منها".